تعددت الأشكال.. والاستغلال واحد..
غزل الماغوط غزل الماغوط

تعددت الأشكال.. والاستغلال واحد..

لم يخفِ الشاب العامل على إحدى بسطات البرامكة  بهجته، وهو يتلقى تهنئة زملائه على البسطات الأخرى ومطالبتهم الملحة «بالحلوان»، والمناسبة هذه المرة هي نجاحه في أحد المقررات الجامعية.

 

حادثة عابرة قد تعترض أحدنا في أي وقت، وتمضي دون اكتراث، لكنها ولا شك، تترك أسئلة «عالقة» في الذهن، حول واقع هذا الشاب وأمثاله من الشباب، الذين وصلوا إلى مستوى عال من التعليم دون أن يعثروا على فرصة عمل لائقة، تتناسب مع إمكاناتهم، ليصبحوا في نهاية الأمر مجرد أرقام تضاف إلى قائمة البطالة الغارقة في طي الكتمان، أو لتتقاسمهم في أحسن الأحوال البسطات والورشات والمطاعم، كعمال بدوام جزئي أو كامل.

فهل باتت نهاية المشوار التعليمي في سورية تصب حكماً في هذا المنحى؟ ولماذا تنسى أو تتناسى الحكومة هذه المشكلة المؤرقة وتتجاهل طرح أية خطة لاستيعاب الشباب الجامعي؟.

العمل على حساب العلم

سواء انتهى تعليمك عند الشهادة الثانوية، أو الجامعية، أو حتى شهادة الماجستير، فلن تجد صدراً أرحب ومكاناً  أمثل لتعمل فيه، خيراً من المقاهي والمطاعم والمولات، والتي باتت المصدر الأول لفرص العمل بالنسبة للشباب المتعلم. 

ولا يعد العمل بدوام جزئي، إلى جانب الدراسة الجامعية مشكلة بحد ذاتها، إذ يعتبر نوعاً من بداية الاعتماد على الذات، وتحقيق الاستقلال المادي، بالنسبة لمن هم في مستهل العمر، لكن اضطرار كثيرين إلى العمل بدوام كامل، لتأمين نفقات الدراسة على حساب التحصيل الدراسي الأمثل، وحضور المقررات الجامعية، ينعكس سلباً على جودة التعليم، فما جدوى أن يدرس الطالب مقررات الأدب الإنجليزي على سبيل المثال، قبيل الامتحان، ويحرم نفسه فرصة الحضور والمتابعة اليومية؟ وهو ما تتطلبه دراسة اللغات عموماً، وأية معلومات ستبقى في ذاكرة طالب لم يتعرف على مقرراته إلا خلال الامتحانات؟، ومن هنا يكون العمل بدوام كامل في المقاهي أو المولات ليس استنزافاً وهدراً لطاقات شابة في غير موضعها فحسب، وإنما هو أيضاً حرمان هذه الطاقات من توظيفها التوظيف الأمثل بما ينعكس على صاحبها في مشواره المهني مستقبلاً.

«على قد لحافك.. ادرس» 

 كثيرون هم الطلاب الجامعيون الذين اختاروا مسارهم الدراسي، بناء على ما يحمله من فرص عمل مستقبلية، حتى لو كان مجالاً لا يحبونه أو يتنافى مع ما يحلمون به على أرض الواقع، في المقابل يختار كثيرون الدراسة التي تتناسب مع مكان إقامتهم، حيث لا تمتلك أسرهم أية فرصة لتحمل نفقات إرسالهم أبعد، وما يتطلبه ذلك من إيجار ومواصلات، ويميل آخرون إلى الكليات النظرية على حساب العملية، لأنها أقل تكلفة مادية، من حيث مستلزمات الدراسة، إلى جانب إمكانية عدم حضور قسم كبير من المحاضرات، وهو ما يتيح للشاب أو الشابة فرصة العمل إلى جانب الدراسة.

عبثاً تحاول

لكن لرغيف الخبز حساباته الأخرى، وعدم تماشي الأجور مع الأسعار ومتطلبات الحياة، جعل من المستحيل بالنسبة للأسر التي لديها أكثر من طالب جامعي، أن تتدبر أمورها بغير عمل هؤلاء الطلاب، واندفاعهم مبكراً إلى سوق العمل، وهم غير مؤهلين علمياً ولا عملياً بما فيه الكفاية، لذلك نجد عشرات - إن لم نقل مئات - من الجامعيين الذين تعرضوا للاستغلال في أبشع صوره، من قبل شركات تعيش على آمال البسطاء، مثل الشركات التي تطلب مندوبات للمبيعات وتنشر إعلاناتها قريباً من السكن الجامعي والكليات، حيث تتصيد الشابات الطامحات إلى أن يخففن عن كاهل اهلهن مصاريفهن الدراسية، ولا سيما أن هذه الإعلانات غالبا ما تكون مرفقة بأجور مرتفعة، قياساً لما يقدم من أجور في سوق العمل، وتنتهي الفتاة إلى أن تجد نفسها في أحسن الأحوال، مجرد حقيبة متنقلة من المنتجات الثقيلة الوزن والرديئة القيمة، تجوب بها البيوت والمحال من غير أية احتياطات لما قد تصادفه من مضايقات، وتذهب بعض هذه الشركات المحتالة بعيداً، إذ ترسل الفتاة إلى بعض المنازل بناء على اتفاق مسبق مع صاحب المنزل، أو قد تتطلب من الفتاة أن تبيع منتجاتها في محافظة أخرى، وتحرم الشابة في حال اعتراضها من أجرها الشهري وينتهي بها المطاف أن تفهم هذه اللعبة الخبيثة بعد أن تكون قد أنفقت مجهوداً لا يستهان به في الترويج للمنتجات الرديئة.

المتاجرة بالأحلام

كذلك تظهر شركات التسويق الشبكي، كاسم يفرض نفسه بقوة في ميدان الخداع والاعتداء على أحلام الناس وطموحاتهم، وتستغل مختلف الشرائح الاجتماعية، وفي مقدمتها بلا شك الشباب الجامعي المثقل بالأعباء المادية والمفتون بالكلمات البراقة كالترويج والشبكات والتسويق، وتعد هذه الشركات بأرباح خرافية دون عناء يذكر، وذلك عن طريق قيام الزبون «المغدور به» بشراء منتج غير ذائع الصيت – إن لم يكن شيئاً لم يسمع به أحد – لقاء بضعة دولارات، ثم قيامه بإقناع ثلاثة أشخاص كحد أدنى بشراء منتج مشابه من الشركة نفسها حيث تعطي الشركة نسبة على كل شخص جديد تتم إضافته إلى الشبكة، لكن جميع الشباب الحالم يصطدم بحقيقة أن لا سبيل إلى ترويج منتج غالي الثمن وعديم النفع وينتهي به الأمر ليدرك أنه اشترى منتجاً بلا قيمة وبدد أمواله هباء. 

وبين هذا وذاك ماتزال للمقاهي والمحال التجارية والمولات حصة الأسد من الشباب الجامعي الباحث عن لقمة عيشه. 

أين أنت يا حكومة؟

تشير إحصاءات صندوق الأمم المتحدة للسكان في سورية، إلى أن 42% من الشباب السوري هم بحاجة إلى فرص عمل على اختلاف تحصيلهم العلمي، لكن الحكومة ما تزال تتغافل عن هذه الأرقام وتصر على ذر الرماد في العيون، مدعية أن فرص العمل متوافرة لمن يريد، وقد حصرت الجهات الحكومية  دورها، في تقديم القروض التي لا يمكن أن تكون بأية حال من الأحوال حلا لهذه المشكلة، فالبطالة أعقد وأعمق من أن تحل بأساليب سطحية كالقروض ذات الشروط المعقدة والسقف المنخفض، والدعم المحدود للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر - والتي أسيء فهمها، أو أعطيت حجماً أكبر من حجمها-  ذلك أن البطالة باتت مشكلة اجتماعية ضاربة في المجتمع السوري، وهي تتطلب حلولا جذرية وإجراءات حازمة على مستوى وطني لا حلولاً فردية ضيقة الأفق، ولا سيما حين يتعلق الأمر بالشباب الجامعي الذي يفترض أن الدولة تنفق ميزانيات ضخمة على تعليمه وإعداده لسوق العمل.    

كي لا ننسى!

لا يغيب عن الذاكرة أن البوعزيزي الذي أشعل تونس منذ سنوات خلت  لم يكن سوى شاب جامعي، أغلقت الطرق في وجهه، وانتهى به المطاف إلى بائع خضروات معدم، قبل أن تأخذ قصته أبعاداً سياسية، ومع ذلك ما تزال الثقافة السائدة لدينا في سوق العمل، حين يتعلق الامر بالشهادة الجامعية، هي: «انقعها واشرب ميتها»، فهل سيأتي يوم تقدر فيه الشهادة الجامعية، والتعب المبذول في سبيلها حق تقدير؟.