ع. ياسين ع. ياسين

الحركة النقابية.. والحركة الاحتجاجية الشعبية

تعرضت الحركة النقابية السورية، كمنظمة مدافعة عن الحقوق السياسية والاقتصادية للطبقة العاملة الوطنية، منذ اللحظات الأولى لتأسيس أول نقابة عمالية وحتى الآن، لهجوم واسع كان يأخذ أشكالاً وألواناً مختلفة من الحدة والعنف والهيمنة والاحتواء، وذلك تبعاً للظروف المحيطة بعمل الحركة النقابية تاريخياً، وتبعاً لموازين القوى السائدة في كل مرحلة من مراحل النضال النقابي والعمالي، وانعكاس تلك الموازين على الحركة النقابية، وتفاعلها داخل الحركة وتأثيرها على آلية عمل النقابات وخطها ورؤيتها وبرنامجها النقابي الذي تعمل وفقه، ومازال هذا القانون ساري المفعول، ويأخذ مداه ودوره فيما ذكرنا، مؤثراً تأثيراً واضحاً في فاعلية الحركة النقابية على الأرض.

لعبت عوامل عدة في إنضاج الظروف المناسبة للطبقة العاملة السورية من أجل أن تكون لها منظمة نقابية عمالية مستقلة، تقود النضال العمالي اليومي وعلى جبهات مختلفة، منها في الجانب المطلبي من أجل انتزاع المزيد من الحقوق والمكاسب للعمال، مستخدمةً في ذلك كل أشكال النضال السلمي، ابتداءً من العرائض وصولاً إلى الاعتصامات والإضراب المحدود والإضراب العام، وفي الجانب السياسي الذي واجهت فيه الأحزاب والقوى البرجوازية التي سعت لاختراقها وزجها في صراعاتها الحزبية، حيث عملت هذه الأحزاب على إيجاد ركائز لها داخل الحركة النقابية سرعان ما أطيح بها وتم تخليص الحركة النقابية منها وإعادة توحيدها بالشكل الذي تم الإعلان عنه، وهو الاتحاد العام لنقابات العمال في سورية.

ولكن السؤال المهم: «كيف استطاعت الحركة النقابية أن تطور أدواتها التنظيمية والكفاحية، وهي قليلة الخبرة وحديثة التكوين نسبياً؟!

ورداً على هذا السؤال يمكن ذكر ما جاء في الوثائق الصادرة عن الاتحاد العام لنقابات العمال حول تاريخ الحركة النقابية والعمالية «...لذلك، ومن هنا برز دور الحزب الشيوعي السوري ـ اللبناني لمساعدة الطبقة العاملة في رفع مستوى تنظيمها النقابي على الصعيد الوطني والطبقي، وفي تأطير هذا التنظيم على أرض الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي مكن الطبقة العاملة فيها من ترسيخ فكرها العمالي ورفع مستوى وعيها الطبقي وتعزيز دورها في النضال الوطني وفي ساحة النضال الطبقي المحلي والعالمي».

إذاً، الدور الفاعل للقوى التقدمية، وفي مقدمتها الشيوعيون، ساعد على تطوير الحركة النقابية والعمالية، وسلَّحها بالبرامج المعبرة عن مصالحها، وهذا ما جعل قدرتها على مواجهة الأعداء الطبقيين أعلى، ولعل هذا ما تفتقده الآن هذه الحركة بالرغم من الوجود الشكلي للشيوعيين داخلها، من خلال قوائم الجبهة التي تنجح دائماً دون أن يكون للعمال رأي حاسم في الموافقة عليها أو رفضها، وهذا ما أضعف الحركة النقابية وجعل ثقة العمال بها ليست كما يجب، وهذا ما سنفصله ونود التأكيد عليه في هذا السياق، وتأكيدنا هذا هو من أجل فتح أوسع حوار حول واقع الحركة النقابية، وضرورة أن يكون لها دورها الفاعل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

1ـ استقلالية الحركة النقابية: لقد أكد تاريخ الحركة النقابية وتجربتها الطويلة نسبياً أنه لا يمكن لهذه الحركة أن تناضل وتدافع عن حقوق العمال دون أن تكون مستقلة في أدواتها المعبرة عمن تمثلهم، ومستقلة في قراراتها عن هيمنة الأحزاب السياسية، ولا نعني بذلك أن تكون الحركة النقابية بعيدة عن العمل السياسي، فالعمل السياسي ومشاركتها فيه هو جزء لا يتجزأ من حراكها العام، بل ما نعنيه ألا تكون قيادات الحركة النقابية ناطقة بلسان أيّّ من الأحزاب في النقابات، مما سيفقدها استقلاليتها في صياغة برامجها وخطابها وتكوين أدواتها التي ستناضل على أساسها، وهذا ما جرى تماماً خلال العقود الخمسة السابقة حيث تأطر نضال الطبقة العاملة وحركتها النقابية وفقاً لما يأيتها من خارجها، وليس وفقاً لما تقتضيه مصالحها ومصالح من تمثلهم، ويمكن القول إن حصر عمل النقابات في الجانب السياسي من خلال النقابية السياسية قد لعب دوراً في إضعاف دورها في الحركة العمالية التي تنامت مطالبها واتسعت بتوسع نمو المصانع والشركات، سواء في القطاع العام أو الخاص، وهي لا تستطيع الحراك خارج ما هو مرسوم لها، ويمكن أن ندلل على ذلك بالموقف غير الفعال بمنع التسريحات الجماعية التي تعرض لها العمال في المواقع المختلفة في القطاع العام أو الخاص، أو كذلك موافقة النقابات على قانون العمل الجديد بعد أن كانت متحفظة على الكثير من مواده، ومواقفها من السياسات الليبرالية حول إصلاح القطاع العام وإعادة الحياة إليه... إلخ، من القضايا التي تحتاج إلى وقفة جادة لبحثها وتبيان أوجه القصور والتقصير في مواجهتها والتصدي لها.

2ـ الحريات النقابية: حيث هي المفتاح الحقيقي الذي يطور دور الحركة النقابية والعمالية في كنفه، واتسع تأثير النقابات السياسي والاجتماعي، فلولا تلك الحريات التي انتزعتها الحركة النقابية لما استطاعت  الحصول على الكثير من الحقوق التي كان أرباب العمل وما يزالون لا يعترفون بها ولا يقرون بأحقيتها للعمال، عند هذا تلجأ النقابات لحقها المشروع في الدفاع عن مصالح من تمثلهم من خلال إعلان الإضراب أو الاعتصام، ولكن منذ الستينيات من القرن الماضي، جرى تحريم هذا الحق على الحركة النقابية ومصادرته، وبالتالي فقدت أهم أسلحتها الفعالة التي أقرتها اتفاقيات العمل الدولية والعربية، وصادقت عليها سورية، وكان التبرير الذي يقدم دائماً أننا لسنا بحاجة لحق الإضراب طالما نحن في شراكة مع الحكومة في قراراتها، وعلاقتنا ممتازة مع القيادة السياسية التي تستجيب لمطالبنا.

ولكن واقع الحال يقول إن الحكومة قد مارست وطبقت برنامجها الإفقاري بحق الطبقة العاملة، وأوصلت الاقتصاد الوطني إلى وضع لا يمكِّنه من تأمين نسب النمو الحقيقية التي تنعكس أثارها على المستوى المعيشي للعمال والفقراء عموماً، بل الواقع يقول إن الأغنياء اغتنوا وراكموا الثروات الطائلة بينما ازدادت نسبة الفقراء وتفاقمت البطالة، وازداد المهمَّشون، فماذا نقول أكثر من ذلك؟!

إن واقع الحركة النقابية والعمالية يتطلب اليوم أكثر من أي يوم آخر، ومن كل الوطنيين والشرفاء داخل وخارج الحركة، النضال من أجل الحفاظ على وحدة الحركة النقابية في مواجهة أصوات عدة تخرج من هنا أو هناك، داعية لخلق شيء ما بديل عنها، مستفيدين من واقع الحركة الحالي وضعف علاقتها مع الطبقة العاملة وعدم قدرتها على الاستجابة لمطالبها والدفاع عنها.

إن وحدة الحركة النقابية تعني تبينها برنامجاً نقابياً وخطاباً وممارسةً نقابية تمكِّنها من استعادة دورها الحقيقي والفاعل في الدفاع عن القضايا الوطنية الكبرى، والدفاع عن مصالح وحقوق العمال في مواجهة قوى السوق والفساد داخل النظام وخارجه.

هذه القوى التي استطاعت عبر تبنّيها للسياسات الليبرالية أن تنهب الدولة والشعب معاً، ما عمق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي بدورها عمقت التذمر والسخط الشعبي، وجعلته يظهر على السطح معبراً عن الحالة التي وصلت إليها أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية، حيث أصابت تلك الأوضاع الطبقة العاملة مما زاد في فقرها وتهميشها ولم تجد من يدافع عن حقوقها، والمفترض بذلك حركتها النقابية التي قدَّم آلاف النقابيين والعمال من عرقهم ودمهم ومستقبل أولادهم كي تكون هذه الحركة مدافعة عنهم وحامية لحقوقهم، ولكن ما هو جارٍ الآن أن العمال يدفعون الضريبة الأكبر عبر إفقارهم وزجهم في معارك ليست معاركهم، بل في مواجهة الحركة الشعبية السلمية التي تتقاطع مطالبها مع مطالب العمال، وحقوقها هي حقوق العمال نفسها.

إن الاستمرار في هذا الموقف للحركة النقابية سيجعل أصواتاً كثيرة تعلو منادية بعدم شرعية هذا الموقف، ما يعني إضعاف الموقف النقابي وجره إلى مواقع ليست مواقعه، وهذا ما لا تريده الطبقة العاملة، وما لا تريده القوى الوطنية والشريفة التي ترى بالحركة النقابية أنها المدافعة عن حقوق ومطالب الفقراء، كل الفقراء.