أفقروهم ... (طفشوهم) .. تباكوا عليهم
يُطل علينا من حين لآخر خبير أو محلل اقتصادي أو إعلامي مخضرم كي يدافع عن السياسات الحكومية الاقتصادية، ويبرر نتائجها الكارثية، ويسوّق للمزيد من القرارات التي تطبخ في المطبخ الاقتصادي، ليتم لاحقاً تبنيها والعمل بها، ولا تحتاج معرفة ما هو آت من تلك الطبخات لمعجزة ما أو نبوءة عظيمة.
فالنهج الاقتصادي الليبرالي الذي عملت به الحكومات المتعاقبة، ما قبل الأزمة وخلالها، هو بالحقيقة غير قادر على إخفاء نفسه ونتائجه و(بحر الطحينة) الذي وعدنا به في فترة تسويقه الأولى واللاحقة لم يكن إلا بحراً من الزفت الأسود (نوع تجاري ثاني) غرقت به الطبقة العاملة واستقرت في قاعه.
وبما أن هؤلاء المسوقين والمروجين والمبررين، الأوفياء للاقتصاد الليبرالي ومعلميه، يدركون مهامهم ووظيفتهم جيداً فهم أول من يلتقط الموضوعات التي تخدم وظيفتهم، ومن تلك الموضوعات موضوعة نقص اليد العاملة الفنية والمهنية في القطاع الصناعي بشقيه العام والخاص.
هناك من يقول .. الأزمة نعمة
وظّف هؤلاء ظاهرة نقص العمالة الخبيرة في تدعيم أقوالهم الإعلامية وتحليلاتهم الاقتصادية، التي تصر على عدم وجود بطالة في البلاد، وبأن الإجراءات الاقتصادية الحكومية التي أدارت بها الأزمة صحيحة، بل وخارقة ضمن ظروف الحرب، وليشكروا الله في الوقت عينه على نعمة الأزمة التي امتصت (العمالة الفائضة) كما يدّعون.
ولكن ذلك ليس صحيحاً فالبطالة في أعلى مستوياتها في البلاد حالياً، رغم وجود نقص باليد العاملة الفنية والمهنية والحرفية، أي أن الذي جرى امتصاصه فعلياً هي الشريحة الفنية والمهنية وليست البطالة بمفهومها العام، وتلك بالذات مسؤولية الحكومة وسياساتها الاقتصادية قبل وخلال الأزمة.
النقابات تطالب بالفنيين
بدأت الشركات الصناعية والمعامل التابعة للقطاع العام بالتحدث عن النقص الحاصل باليد العاملة الفنية والمهنية (حصراً) منذ بداية الأزمة، والتي ازدادت بشكل متسارع وكبير في السنتين الأخيرتين فأصبحت هذه المشكلة من أبرز معيقات الإنتاج لديها.
فوردت في تقارير الشركات والمؤتمرات النقابية، وتناوب ممثلو العمال في المؤتمرات على طرحها والمطالبة بالحلول المستعجلة لها، طارحين مقترحاتهم الموضوعية لذلك كونهم يعلمون أسبابها بالحقيقة الملموسة، وصنفوها لقسمين، أولهما ترجع لما قبل الأزمة والأخرى ظهرت مع بداية الأزمة وتفاقمت باستمرارها.
الخاص يسحب من العام
يعتبر عدم صدور قرارات تعيين جديدة، إلا ضمن شروط محددة في القطاع العام الصناعي، منذ مطلع التسعينات المصاحب لصدور قانون الاستثمار المشؤوم رقم 10 من أهم أسباب تشكل النقص باليد العاملة الفنية، فتقاعد عشرات العمال الفنين سنوياً بحكم العمر من القطاع العام لم يجرِ تعويضهم بفنيين جدد من فئة الشباب، مما أدى بمرور السنين لتراجع نسبة الفنيين في القطاع العام الإنتاجي، في حين توسع القطاع الإداري بشكل كبير.
ويبرز سبب آخر لا يقل أهمية عن الأول وهو العملية التي قام بها القطاع الخاص، الذي وجد بالقانون رقم 10 ضالته، فاستثمر وتوسع وأخذ يسحب حاجته من العمالة الفنية والمهنية الخبيرة من القطاع العام، مستغلاً ضعف الأجور وتراجع قيمة الحوافز الإنتاجية بشكل عام فيه، فاستقطب خيرة الأيدي العاملة الخبيرة التي كانت تعاني من تدني مردودها المادي وتدني معيشتها، ووجدت الحل المتوفر لها الانتقال للقطاع الخاص.
القانون يعيق الحفاظ على الفنيين
لم يرع قانون العمل رقم 50 أهمية هذه الفئة الهامة من الطبقة العاملة، ولم يترك هامشاً محدداً للإدارات كي تقوم بإجراءات مناسبة للحفاظ عليها، فوقفت عاجزة عن إيقاف النزيف الحاصل في صفوف كوادرها لصالح القطاع الخاص طوال العقود الثلاثة الماضية، لا من ناحية الأجور ولا من ناحية المكافآت والحوافز، فخسر القطاع العام بشكل متتالي خيرة فنييه.
ومثال على ذلك أن المصمم في الشركة العامة للألبسة الجاهزة (وسيم) يتقاضى أجراً وفق فئته كغيره من عمال الإنتاج العاديين، في حين يدفع له رب العمل في القطاع الخاص ضعفين أو ثلاث، وكذلك يحصل مع خبير تركيب ومزج المواد في معمل (أمية) للدهانات، وعلى هذا قس.
ألف سفر ولا بطالة
يرجع جزء من أسباب هذه الظاهرة لعوامل طبيعية نتجت عن الأزمة وهي موضوعية، كارتفاع منسوب العنف واتساع رقعة الأعمال العسكرية والأوضاع الأمنية الصعبة، وخسارة الكثير من العمال الفنيين لعملهم دون توفر البديل أو الشاغر، فكان السفر من أحد الخيارات التي لجؤوا إليها للتخلص من الواقع الجديد والقاسي الذي فُرض عليهم، خاصة مع سوء إدارة الحكومة لهذا الملف، فسافر الآلاف منهم لخارج البلاد بشكل عام وإلى تركيا ولبنان والأردن ومصر بشكل خاص، وساعدهم على ذلك نقل الكثير من أرباب الأعمال السوريين لأعمالهم وآلاتهم لتلك الدول، وإمكانياتهم المهنية التي يتسلحون فلا يخشون بوجودها من البطالة أو الحاجة في الغربة.
تدني الأجور طفش العمال
لم يكن السفر حكراً على من خسر عمله أو توقفت المنشأة التي يعمل بها، بل توسعت لمن ما يزال على رأس عمله، فكثرت الاستقالات بصفوف العمال في القطاع العام بداعي السفر، وازدادت كلما ازداد الوضع المعيشي تدهوراً، خاصة في السنتين الأخيرتين، إذ تسارعت فيها الإجراءات والقرارات الحكومية التي أنهكت العاملين وأدخلتهم لدائرة الفقر المدقع، حيث فقدت الأجور 75% من قيمتها الشرائية وارتفع الدعم عن المواد الأساسية، ولم يعد يستطيع متوسط الأجر، الذي لا يتجاوز 25 ألف، أن يؤمن ثمن الأكل في معيشة قدرت تكاليفها ب270 ألف، فانعدمت الحلول وأغلقت المخارج وأصبح لكل ذي قدرة على السفر طريق واحد يؤدي لما وراء الحدود.
شماعة المسؤولين
لا يمكن إنكار حجم التداعيات الكبرى الخارجة عن إرادة الجميع، والتي ضربت الاقتصاد السوري جراء الأزمة، كالحصار الاقتصادي الجائر من قبل الغرب، وتمدد النصرة وداعش بإرهابهم الدخيل على النسيج الوطني، وما نتج عنه من تدمير للمنشآت الصناعية والإنتاجية، وهي بالفعل من أحد أسباب خسارة اليد العاملة المهنية، ولكن ليس من المسموح الإصغاء لمن يجعلون منها شماعة كي يغطوا نسبتهم من المسؤولية بخسارة أحد أهم أدوات الاقتصاد الوطني، فهم بالنهاية ثروة مبددة تضاف لثرواتنا الوطنية الكثيرة المبددة والمنهوبة منذ زمن ليس بقصير.