حاضرة في الخطابات.. غائبة في المنشآت.. هل عرفتم من هي؟
لا تخلو بيئة العمل بوجه عام، أياً كانت طبيعتها، من مخاطر تتهدد حياة العمال، والتي قد تكون مجرد أعراض تزول بالراحة وزوال المؤثر الممرض، أو تتعدى ذلك لتغدو مهدداً حقيقياً لصحة العامل أو حياته، وذلك حين يغيب الاهتمام بالسلامة المهنية، أو يحولها الاهتمام بالربح مقابل الاستهتار بحياة العامل إلى مجرد كلمات يجري تداولها مع وقف التنفيذ.
فعلى المستوى العالمي وفي ظل غياب أبسط معايير السلامة المهنية عن كثير من المصانع والمنشآت، فإن إصابات العمل تتسبب بوفاة أعداد كبيرة من العمال، إذ تشير إحصائية أجرتها منظمة العمل الدولية إلى وجود حادثة وفاة كل ثلاث دقائق ناجمة عن إصابة عمل، كما تؤكد أن هناك أربعة إصابات عمل مختلفة تحدث في العالم كل ثانية.
تقصير لا يغتفر
وأياً كان نوع الضرر الذي قد يلحق بالعامل، فإن توفير أقصى سبل الحماية والأمان هو حق ثابت له لا يجوز التفريط فيه، رغم ذلك فإن أي متابع لحال المعامل السورية يجد تقصيراً صارخاً في هذا المنحى، وهو لا يكاد يخفى على أحد، فعمال البناء بلا خوذ، وعمال النسيج بلا كمامات، كما أن عمال الأشعة بلا فحوصات دورية وعمال الصناعات الكيميائية بلا قفازات والقائمة تطول حتى لتوشك أن تشمل معظم العمال السوريين..
الخاسر الأكبر
لاشك أن الثمن الأكثر تكلفة هو ذلك الذي يدفعه العامل من تردي صحته، أو حتى فقدان حياته بسبب ظروف قاسية تحوّله إلى مجرد وقود تستهلكه عجلة الإنتاج وهي تطحن دونما رحمة.
إذ تتسبب إصابات العمل بخسارة العمال المهرة واستنزاف المعنويات وفقدان كثير من الأسر لمعيلها، وإنفاق مبالغ طائلة على العلاج والتداوي، وعلى المستوى الوطني تؤدي إلى ارتفاع أسعار المنتجات وانخفاض الناتج الوطني.
ثنائية الفقر والاستغلال
يتقاسم القطاعان العام والخاص المسؤولية في التقصير الكبير فيما يتعلق بسلامة العمال، كما تتسبب ساعات العمل الطويلة والحرمان من الإجازات في استهلاك جسد العامل قبل الأوان، ويمارس الفساد والاستغلال دوره في استنزاف قوة الإنسان العامل، في مقابل تكديس المزيد من الثروات في أيدي أرباب العمل، وبالمحصلة، فإن الوضع الاقتصادي المستمر في التردي يقود كثيرين إلى القبول بظروف عمل ما كانوا ليرضوا بها لولا الحاجة الماسة إلى لقمة العيش.
لا لتسويق الأعذار
ليست سبل الوقاية مكلفة كما يدعي البعض، بل إنها على العكس قد تجنب خسائر كبيرة في الأرواح والمنشآت، وتحمي العامل الذي هو عصب عملية الإنتاج وأهم عنصر فيها، وتنمي إحساسه بأهميته كإنسان لا بد من رعايته قبل أي شيء، وليس مجرد رقم يجري استبداله إذا تعرض للأذى، إذ أن من اللاأخلاقي القول، أن السلامة المهنية ترهق ميزانية المنشأة، أو أن اللباس الواقي والأحذية الآمنة والخوذ على سبيل المثال لن تكون ذات فائدة، لأن العامل لن يرغب في استعمالها أو سيقوم ببيعها والاستفادة من ثمنها كما يحتج بعض أرباب العمل.
الدرهم الضائع
درهم الوقاية كما يقال خير من قنطار علاج، هذه المعادلة البسيطة التي يتهرب منها أرباب العمل متذرعين بحجج واهية، تستلزم في المقام الأول ضرورة توفير مختلف معدات الوقاية والسلامة الشخصية أثناء العمل، وإلزام العامل باستخدامها لأنه قد لا يعي المخاطر التي يمكن أن تصيبه أو قد يقلل من شأنها، وهنا يأتي دور التوعية من خلال البروشورات والندوات الدورية واللافتات التحذيرية في المواقع الخطرة.
كما أن السلامة المهنية تتطلب أيضاً: توفير المعدات اللازمة للإسعافات الأولية في مواقع العمل من أجل التعامل مع الحوادث المحتملة على وجه السرعة، وتأهيل العاملين من خلال دورات إسعافات أولية، وإطفاء حرائق وسبل الإخلاء وما شابه ذلك ليكونوا أقدر على حماية أنفسهم ومنشآتهم عند وقوع أي مكروه.
إلى جانب ذلك يتوجب حفظ المواد الكيماوية والمواد القابلة للاشتعال بعيداً عن أماكن تجمع العمال وإخضاعها للمراقبة والإشراف لتلافي أي تسرب قد يؤدي إلى كارثة.
التشريع قبل كل شيء
وقبل هذه الإجراءات كلها فإن من الضروري سنّ تشريعات صارمة بهذا الخصوص، وفرضها على المنشآت التابعة للقطاعين العام والخاص جميعها على حد سواء، وتفعيلها عبر الرقابة والمتابعة الدورية، وخلق بيئة صناعية تُعلي من شأن العامل وتضع كرامته وسلامته فوق أي اعتبار.