أنا أحمد العامل!!
«شو بدي احكيلك لاحكيلك..» هكذا تنهد (أحمد. ح) عندما طلبت منه أن يحدثني قليلاً عن وضعه في العمل وفي الحياة.
أحمد شاب يعمل في أحد أكبر معامل الحلويات في منطقة الميدان بدمشق، حلمه الأول والوحيد اليوم هو الزواج، حيث بدأ رحلة جمع أموال الزواج منذ سنتين بعد خطوبته.
حدثني أحمد كيف يتبخر راتبه الزهيد بين جمعيات وقروض والقليل جداً من الحاجات اليومية: «أتقاضى مبلغ 2500 ل.س أسبوعياً- بعد 10 سنوات من العمل، وأعمل مقابله 10 ساعات يومياً. أقوم مع عمال آخرين بإنتاج نوع معين من الحلويات وبكميات كبيرة جداً حيث يتم تصدير قسم كبير إلى دول مختلفة».
ستشعر بمدى استغلال أحمد، بمجرد سماع نبره صوته، وبرؤية وجنتيه اللتين كانتا تتحركان وهو يتكلم لشدة توتره، ثم سألته إن كان يعمل لوقت إضافي فقال: «في كثير من الأيام نكون مطالبين بإنهاء (طلبية) ليتم تصديرها مما يستدعي العمل لوقت إضافي، حتى أنني أضطر أحياناً إلى النوم بالمعمل، لكي لا أذهب إلى منزلي البعيد نسبياً عن مكان العمل، إذ قد أنهي عملي في منتصف الليل، وعلي أن أكون على رأس عملي في الساعة 8 صباحاً»..
أمازال في هذا العالم من يعمل 16 ساعة في اليوم؟!
«هل بإمكانك أن ترفض العمل لوقت إضافي؟».. هذا هو السؤال الذي تبادر إلى ذهني مباشرة، ليكتفي أحمد بسماعه مبدياً ابتسامة طفيفة، هي تلك الابتسامة الساخرة التي تكون جواباً على سؤال واضح لا يحتاج إلى جواب، ثم تراجعت ابتسامته وعلق: «بالطبع لا يمكنني ذلك، فهم لا يخيرونني، حيث أن هنالك عملاً يجب إنجازه قبل انصرافنا كعمال، ثم من ناحية أخرى أجد نفسي محتاجاً لمثل هذا العمل الإضافي لأرفع قليلاً من دخلي غير الكافي، والذي يتعرض أحيانا لاقتطاعات وغرامات التأخير.. ثم قلت لك إنني أريد أن أتزوج.. شو نسيت»؟!
وهكذا بينما يجبر أحمد على العمل لوقت إضافي، يتم اجبار "أحمد آخر" على البقاء من دون عمل، والجلوس في المنزل، منتظراً فرصة عمل قد لا تأتي، لأن كل «أحمد» في كل مكان، يشغل فرصتي عمل عبر نظام العمل الإضافي، فعن أي بطالة نتحدث؟!
أحمد يقوم بهذا العمل منذ 10 سنوات، وقد فكر مراراً بتغيير مهنته إلى مهنة «أحسن» حسب تعبيره، لكنه لا يستطيع أن يقوم بأي عمل آخر، فهو حتى لا يقوم بتصنيع نوع محدد من الحلويات، إنما يقوم بجزء من عملية إنتاج ذلك النوع، فهو يعمل بالضبط كآلة، حيث يقوم بعملية تفصيلية جداً متكررة ومنتظمة، تخضعه تماماً لصاحب العمل وتربطه بالمصنع وبالمهنة إلى الأبد!!، أما إذا فكر بترك هذا المعمل والانتقال إلى معمل حلويات آخر فستواجهه الشروط القاسية نفسها الموجودة في عمله الحالي.
معظم العمال الحرفيين يخضعون لظروف مشابهة، من حيث الأجور المتدنية بشكل كبير، وعدد ساعات أكثر من المتوسط، بحيث لا يتبقى لهم إلا وقت فراغ قصير، بالإضافة للرقابة الشديدة والغرامات والحسومات في العمل، وهذا لا ينعكس فقط على الوضع المعيشي حيث ترزح هذه الفئة تحت ضغط اقتصادي شديد، لكن على الوضع النفسي وعلى الشخصية والدور الاجتماعي. فضمن هذه الظروف تتكون رؤية الفرد وتصوره عن العالم المحيط به، وتتشكل شخصيته، فظروف من هذا النوع تسحق فكر العامل، وتطبع شخصيته بالبلادة والبلاهة والجمود.
أحمد الذي ترك المدرسة وعمره 10 سنوات، وجدته ككثيرين غيره، بسيطاً جداً، يدهشه كل شيء تقريباً، فهو يصغي إليك جيداً عندما تحدثه، ما عليك إلا أن تخرجه من نطاق المعمل والحارة، ليقف أمامك مشدوهاً لا يتكلم، فقط ينصت ويستغرب ويتعجب ويتفق معك في كل شيء، لدرجة أنه بإمكانك أن تقنعه بعدة وجهات نظر متعارضة!!
هذا هو «أحمد العامل»، كثيرون مثله يقبعون في الجحيم نفسه.. عندما أنهيت حديثي سألته ممازحاً، إن كان سيسمح لزوجته بالعمل بعد الزواج لتساعده في الدخل، فأجاب متردداً: «لا»، وبعد أن صمت قليلاً عقب قائلاً: «لا تؤاخذني بها الكلمة.. بس البنات يلي بيشتغلوا مو مناح».
لقد تعرض ماركس إلى هذه النظرة التي تلبست «أحمد العامل»، طبعاُ ليس أحمد فقط، إنما إلياس وجنكو.. وكل العمال أيضاً.. فقال: «إن تعسف السلطة الذكورية ليس هو الذي خلق اضطهاد المرأة ودونيتها، فعلى العكس من ذلك، إن الاضطهاد الرأسمالي هو الذي انحط بهذه السلطة إلى التعسف والدونية».
بالتحديد استخدم أحمد تعبير «مو مناح» وليس أي تعبير آخر، قالها وهو متردد، ولم يستخدم أي كلمة سوقية قاسية لأسباب كثيرة، أهمها أن أخته كانت تعمل قبل أن تتزوج وتسافر، والأهم أن خطيبته الحالية هي امرأة عاملة!!