الحركة النقابية أمام جملة من التحديات!
منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، وأمام التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الجذرية التي جرت في العالم. بدت الحركة النقابية العربية وكأنها تقف على أعتاب مرحلة يخطو فيها الزمن خطوات بطيئة متثاقلة، وكأنه لا يخطو خطوة واحدة إلى الأمام. ومن يتأمل الواقع العام، يلاحظ أن الموقف الاجتماعي والسياسي للطبقة العاملة كان غائباً عن مسرح الأحداث، ومن الممكن أن نعتبر كل فراغ اجتماعي وسياسي يشكو منه الواقع، فراغاً لا تسده إلا قوة كبرى كقوة الطبقة العاملة. وهذا يظل مطلباً ملحاً في الحياة العربية.
لاشك أن التناقضات الطبقية قائمة وتحدث كثيراً من الهزات والاضطرابات. ولكنها هزات عفوية، والاضطرابات تُقمع، وكثيراً ما تؤدي الصراعات العفوية، أو الصراع الطبقي غير المنظم إلى انفجارات هائلة، ولكنها فاشلة، لأن هناك عوامل داخلية وخارجية تتحكم في ظروف البلدان العربية. تؤدي إلى توجيه الاحتجاج الطبقي إلى مسارات أخرى مختلفة عن مسارات النضال الطبقي الواعي والمنظم، مما يؤدي إلى تصريف ذلك الاحتجاج في نزاعات هامشية لا تحقق مصلحة الطبقة العاملة.
ومن أخطر تلك العوامل أجواء المجتمع الاستهلاكي الذي يعتمد على ترسيخ سلبياته الاقتصادية في فعالية الفرد، فهو يحيي مفهوم «الفردانية» الشخصية، ويوقظ نزعات الانفصام عن المجتمع والطبقة، للانطلاق في مشاريع فردية للخلاص، والنظام الاستهلاكي يسيطر بقوة تحصر الفرد بقوة الربح السريع مهما كان الثمن، فالسلعة تحلُّ محل كل القيم والعلاقات الإنسانية، وفي وضع كهذا تصبح التجارة والخدمات محور الفعالية الاقتصادية، إذ أنها تستقطب كل النشاطات وكل الاهتمامات، وتعطل كل ما لدى المجتمع من طاقات إنتاجية، فيصيب الخلل والتفسخ المجتمع بأكمله، ويصل هذا التأثير السلبي أولاً إلى البيئة العمالية التي لم يكتمل نموها، ولم يتبلور وعيها بعد، والتي لم يحلَّ عندها الولاء النقابي محل الولاء العائلي والعشائري والطائفي. هكذا يأتي الجو الاستهلاكي ليشكل أخطر المناخات الاقتصادية والاجتماعية على الطبقة العاملة، وليقضم بأسنانه الحادة الأواصر الطبقية، ويحول الطبقة العاملة ونقاباتها إلى حجر يتسرب منه المضمون!!
وبلداننا العربية في معظمها بلدان استهلاكية يتم إخضاعها بالسلعة والسوط، وقد بدأ التوجيه الاستهلاكي يعطي نتائجه المباشرة، ومع ذلك فإن السؤال الأساسي الذي يبدو سؤالاً ملحاً:
كيف يمكن للطبقة العاملة ونقاباتها أن تواجه المخاطر؟
لاشك أن الجواب يبدو صعباً، أمام تساؤلات عديدة: هل النقابات مستوفية لشروطها الأساسية في العمل النقابي؟ كيف تمارس النقابات دورها الاجتماعي والسياسي؟ ما البرنامج المرحلي للنقابات؟
إجابات الحركة النقابية عن هذه الأسئلة والتساؤلات تؤكد بأن المتغيرات وضعت الحركات النقابية أمام مهمات جديدة تفرض عليها تغييراً في البعض من أساليب عملها وأدوات نضالها، لذا من الضروري أن يتواكب عمل النقابات مع التحولات الجارية، وأن تغير من طروحاتها وأساليب عملها، وتحدد استراتيجيات جديدة للعمل النقابي تتناسب والمتطلبات الجديدة، وذلك بغية التخفيف من الآثار السلبية لهذه المتغيرات.
وعلى النقابات وفق ذلك الطرح أن تضع بعناية وموضوعية برنامجاً مطلبياً مع تقديم المبررات، وتفعيل وتطوير الحوار الثلاثي «عمال، أرباب عمل، حكومة» في ظل تنامي القطاع الخاص مع تقدم اقتصاد السوق، وذلك من أجل طرح مطالب ورؤى الحركة النقابية تجاه عدم التزام القطاع الخاص بشكل كامل بإشراك العمال في المظلة التأمينية، وعدم تقيده بشروط الصحة والسلامة المهنية، ولجوئه لفرض استقالات مسبقة من العمل تودع لدى صاحب العمل.
وإذا كان أرباب العمل يمارسون تلك الأساليب ضد العمال، وهذه حقيقة لا شك فيها، فماذا عن دور الحكومة والجهات الوصائية؟!! خاصةً بعد تبنيها اقتصاد السوق، واتخاذها حزمة من السياسات الاقتصادية والمالية تمحورت حول: وقف الاستثمار في القطاع العام وتركه للموت النهائي، وتحرير التجارة والخدمات، وإلغاء الضوابط المنظمة للحياة الاقتصادية، وتقليص دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع إلى أدنى الحدود.
وقد أدت هذه الإجراءات وغيرها إلى المزيد من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وإلى الانتقاص من حقوق العمال وتحجيم دور الحركة النقابية.
هذه التغيرات يجب أن تضع الحركة النقابية أمام مهمات جديدة، تفرض عليها تغييراً في أساليب عملها وأدوات نضالها، بحيث لا تكتفي باستجداء المطالب، ورفع العرائض إلى الجهات المعنية. بل يجب أن تسعى إلى فرض المشاركة الشعبية الواسعة في اتخاذ القرار، وتفعيل دور المؤسسات المنتجة والنقابات العمالية والمهنية، واتخاذ إجراءات عاجلة لتأهيل القطاع العام الصناعي وتعزيز دوره قبل سقوطه بالضربة القاضية!!