لماذا يضرب العمال عن العمل؟
لماذا يضرب العمال عن العمل؟ سؤال مضمون الإجابة عنه في جملة الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحيطة بالطبقة العاملة، والتي تشعر إزاءها بأنها أدوات ضغط حقيقية على جملة الحقوق المشروعة للطبقة العاملة، حيث تسلبها منهم الطبقة الرأسمالية، بمختلف مسمياتها، مستندين بذلك على قوة جهاز الدولة والقوانين والتشريعات الناظمة للعلاقة بين قوة العمل ورأس المال، والتي هي منحازة إلى حد كبير لأرباب العمل، سواء في القطاع الخاص والقطاع العام، وهنا الفارق نسبي بين القطاعين من حيث أدوات الاستغلال والتحكم بمنتوج العمل الذي ينتجه العمال في سياق العملية الإنتاجية، والذي نصيبهم فيه هو جزء يسير معبر عنه بالأجور التي يتقاضونها، مع العلم بأن الأجور حسب معادلة الدخل الوطني لا تكفي حتى لتجديد قوة عمل العمال، فما بالنا بالاحتياجات الأساسية والضرورية المحروم من تأمينها غالبية العمال الساحقة.
تجارب وخبرات متراكمة
كانت السمة الأبرز للحركة العمالية في سورية، منذ نشأتها الأولى، هي تبنيها لحق الإضراب كسلاح فعال من أجل انتزاع حقوقها، وهذا الحق بقي ملازماً لها في حراكها ومواقفها الوطنية لمجابهة الاستعمار الفرنسي إلى جانب القوى الوطنية المناضلة من أجل استقلال سورية ووحدة أراضيها، أو في مواقفها الطبقية من أجل تحسين شروط عملها وزيادة أجورها، وتزاوج الموقفين الوطني والطبقي أكسب الحركة العمالية والنقابية وزناً سياسياً هاماً، مكنها من أن تكون إحدى القوى الوطنية والطليعية في البلاد، حيث سعت معظم الأحزاب والقوى، بما فيها القوى والأحزاب البرجوازية، بأن تكون الحركة النقابية حليفتها في معاركها وصراعاتها السياسية، ومع هذا استطاعت الحركة العمالية والنقابية المحافظة على استقلاليتها التي كانت عنوان قوتها في الدفاع عن حقوقها المختلفة، وبقي سلاح الإضراب هو المدفعية الثقيلة التي تدافع بها الطبقة العاملة عن نفسها وحقوقها.
الإضرابات العمالية بين مد وجزر
من الطبيعي أن يتعرض الحراك العمالي بمختلف أنواعه لحالة من المد والجزر وذلك لعوامل وظروف عدة تحيط بالطبقة العاملة:
مستوى الحريات السياسية والديمقراطية التي من خلالها يتمكن العمال من التعبير عن حقوقهم والدفاع عن مطالبهم.
واقع الحركة النقابية من حيث علاقتها بالطبقة العاملة، وقدرتها على صياغة مواقف مستقلة بعيداً عن التأثيرات الآتية من خارجها المعيقة للحراك العمالي المفترض.
الوضع الاقتصادي وتأثيراته المباشرة على جملة الحقوق والمطالب العمالية، وخاصةً مستوى الأجور وعلاقتها بمستوى الأرباح، الذي تستحوذ عليه قوى رأس المال.
التغير في تركيبة الطبقة العاملة من حيث أصولها الطبقية، وتوزع علاقتها بين المعمل ومصادر دخل أخرى.
جملة القوانين والتشريعات التي بموجبها يجري تقييد الحركة العمالية ووضعها دائماً تحت طائلة التسريح التعسفي.
نسب البطالة المرتفعة
أو المنخفضة في سوق العمل.
استناداً لما سبق يمكن أن نعرض للتطور الحاصل في الحركة الإضرابية للطبقة العاملة السورية خلال العقدين السابقين سواء في حالة المد أو الجزر بناءً على ما قامت بنشره جريدة «قاسيون» من توثيق للإضرابات العمالية التي جرت في الفروع الإنتاجية المختلفة في القطاع العام والقطاع الخاص.
السياسات الاقتصادية
ولعبة المراكز المالية
لعبت السياسات الاقتصادية الليبرالية المستندة لتوجيهات البنك والصندوق الدوليين، التي جوهرها: تقليص دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، وتحرير الأسواق والانفتاح على الخارج، وتخفيض الإنفاق الاستثماري في الاقتصاد الحقيقي الصناعي والزراعي، ورفع الدعم عن المواد الأساسية، وإضعاف دور القطاع العام الاقتصادي والاعتماد على القطاع الخاص الريعي كقاطرة للنمو، تلك القضايا كلها مجتمعة لعبت دوراً مهماً في تدني المستوى المعيشي للعمال وخسارتهم لجزء مهم من أجورهم الحقيقية، بالرغم من الزيادات الاسمية للأجور خلال السنوات المنصرمة، بالإضافة لخسارة العمال للعديد من التعويضات التي كانت تعد اسمياً جزءاً من الأجر، كالحوافز الإنتاجية وطبيعة العمل والاختصاص وغيرها من التعويضات، التي ترفع النقابات الآن الدعاوى القضائية من أجل استردادها بمفعول رجعي. وإذا ما استعرضنا ما نشرته «قاسيون» في بانوراما الإضرابات نجد أن إضراب عمال الشركات الإنشائية أخذ الحيز الأكبر من الإضرابات العمالية في فروعها المختلفة، بسبب التأخر في دفع أجور العمال لأشهر عدة، ويعطى العامل أجرة شهر واحد ويبقى له في ذمة شركته شهران أو أكثر، على الرغم من وجود الأموال لدى الشركات، ولكن كانت تتصرف بها للدفع للمتعهدين الثانويين لمشاريعها وتترك العمال دون أجور. كذلك إضراب عمال الرميلان وهو حقل لإنتاج النفط والسبب هو التوزيع غير العادل للحوافز الإنتاجية، حيث حصل من يعمل في الإنتاج على حصة أقل بينما الإداريون والمهندسون كانت لهم الحصة الأكبر من الحوافز الانتاجية.
نماذج إضرابية للعمال
احتجاج وإضراب من نوع أخر قام به عمال المرفأ في اللاذقية احتجاجاً على إدخال شركة أجنبية للاستثمار في المرفأ، أي احتجاجهم ضد الخصخصة والشراكة مع الأجانب وتم معاقبة العمال.
اعتصام 1800 عامل من مرفأ طرطوس احتجاجاً على توزيع الكتلة الإنتاجية بشكل غير عادل لمن يعملون بالأعمال القاسية.
أما عما القطاع الخاص فقد كانت إضراباتهم أوسع وأشمل من عمال القطاع العام، وذلك لخصوصية واقعهم وظروف عملهم وحقوقهم المنقوصة، التي يستولي عليها أرباب العمل، وتحررهم من قيود عدة تحد من حركتهم الإضرابية.
فقد أضرب عمال شركة المتوسط للصناعات الدوائية من أجل زيادة أجورهم التي صدرت بمرسوم رئاسي والتي اختزلها أصحاب المعمل بـ 15%.
إضراب عمال السويدي للكابلات في عدرا الصناعية لعدة مرات من أجل زيادة الأجور وحققوا بهذه الإضرابات الزيادة التي طالبوا بها.
وأخر إضرابات عمال القطاع الخاص في العام الحالي إضراب عمال معمل زنوبيا للسيراميك لأكثر من أربع إضرابات متوالية، مطالبين أصحاب المعمل بزيادة غلاء المعيشة وحصلوا نتيجتها على زيادة مقدارها 100% من أجورهم، وتميز هذا الإضراب بالتنظيم الجيد والمحافظة على الآلات والبنية التحتية للمعمل، حيث ينظر العمال بعين الحرص على المعمل كونه مصدر عيشهم.
استنتاج من واقع الإضرابات
ما نود أن نقوله في هذه الإطلالة على واقع الحركة العمالية وحراكها الإضرابي أنها ستتوسع وتتطور بسبب الواقع الاقتصادي- الاجتماعي الذي سببته السياسات الاقتصادية، والعمال يقومون بتنظيم أنفسهم في المعامل لضمان نجاح إضرابهم، ويصيغون شعاراتهم الأولية «سنحارب الإرهاب في الخارج والرأسماليين والبرجوازيين في الداخل» بشكل يتفق مع خبراتهم في مثل هكذا نضال، حيث يكون لعمال القطاع الخاص الوزن الأساسي في الحراك العمالي العام، وهو مستمد من وزنهم في الطبقة العاملة السورية.
إن ظاهرة الإضرابات باتت ظاهرة واقعية في ظل السياسات الاقتصادية التي أوصلت العمال إلى مستوى معيشي غير مسبوق، والرد الممكن من قبل العمال لتحسين واقعهم المعيشي وتحصيل حقوقهم هو مواجهة مستغليهم بشكل سلمي وقانوني، كما ينص على ذلك الدستور السوري وقوانين واتفاقيات العمل الدولية، التي تعتبر الإضراب جزءاً لا يتجزأ من الحقوق والحريات الديمقراطية والنقابية، والإضراب حق مشروع وفق ذلك في الظروف كلها التي يتعرض فيها العمال لعملية استغلال واسعة، كما هو جار الآن.