أطفال ولدوا في (المعمل)

على الطريق الصحراوي المتجه شرقاً، حيث لا أفق سوى البادية، وبعد أن تمر بمدينة عدرا العمالية، حيث لا تزال آثار الكارثة ماثلة دماراً وانعداماً بالحركة والحياة.. استوقفتنا قبل المنعطف المفضي إلى المعمل، شاحنة كبيرة اكتظت عربتها بالأطفال المتضاحكين، وسائقها يحاول بصعوبة، أن يضبطهم لينطلق، وحين سألناهم (وين رايحين).. كان الجواب المستغرب: (راجعين عالمعمل)! 

حيث تبين أن 130 عائلة من أسر عمال المعمل، مقيمة بداخله منذ بداية الأزمة..

أنهينا جولتنا على الأقسام الإنتاجية في المعمل وتوجهنا للمنطقة الأخرى من الشركة، حيث يسكن العمال لنبتعد تدريجياً عن الأفران وحرارتها، والتعبئة وغبارها، ونصل للتجمع الأول. عبارة عن بناء أرضي له مدخل رئيسي وهو تابع لمركز التدريب والتأهيل، وقد أنشئ سابقاً كغرف مستقلة، من أجل إقامة طلاب المركز من المحافظات.

توزعت عائلات عمال من معمل اسمنت عدرا، ضمن الغرف البسيطة والصغيرة. أحد العمال القاطنين مع عائلته، استقر في المعمل بعد أن فقد مسكنه الأصلي في منطقة (سبينة حجيرة)، وهو يعتبر أن (هذه السكنة على بساطتها، مأوى أفضل من مراكز اللجوء، واستحالة دفع أجرة بيت يأوي العائلة). أما عن مسكنه الأصلي فيقول بأنه (أصبح من الماضي ولكني واثق من العودة له)..

مظاهر الحياة العائلية اليومية 

في التجمع الآخر تسكن الأعداد الأكبر من العائلات في غرف متلاصقة، وظروف سيئة، ما أن دخلنا المنطقة حتى بدأنا نرى مظاهر الحياة الأسرية فعلى أحد الجدران رأينا السجاد المهترء المنشور تحت أشعة الشمس، وبضع حبال ربطت على عجل نشرت عليها إحدى العائلات ثياب أطفالها، وبضع صبايا صغيرات يجلسن على عتبة البيت لكنهن دلفن لبيوتهن بمجرد رؤيتهم لزميلنا المصور في حين تمشي بيننا بضع أطفال صغار لم يتجاوزوا الرابعة من العمر بعضهم ولد هنا في معمل أسمنت عدرا.

(نعمة) في ظرف النزوح السوري!

عائلات عمال في المعمل ممن هُجروا وفقدوا سكنهم الأصلي، وجدوا في المعمل مأوى، حيث انتقلوا للسكن في ظروف لا تعتبر ظروف ملائمة للسكن الدائم، ولكنها تعتبر (نعمة) في ظرف النزوح السوري، القسم الثاني الذي خصص لسكن العمال، كان يستخدم سابقا كمستودعات صغيرة للأنقاض والخردوات، وهي بعيدة نسبيا عن أماكن العمل وخطوط الإنتاج مما يوفر شروط سلامة وصحة أفضل نسبياً. قام العمال بإعادة التأهيل بما تيسر لهم من المواد، فصمموا أبواب الخشب والصفيح بطريقتهم كما أنهم اعتمدوا على الشوادر والنايلون لإغلاق النوافذ ويمكن القول بأن هذا الأمر قد نجح في تأمين سكن مجاني، وفي قلب مكان العمل أي بنقل مجاني..

الخدمات الضرورية كافة كالكهرباء والماء النظيف مؤمنة تقريباً، للعمال القاطنين كما أن الخبز والمواد الغذائية تصل بأسعار السوق، يضاف إليها أجور النقل الرمزية عبر (الندوة) الموجودة ضمن تجمعهم السكني. كما ينقل باص الطلاب لمدارسهم ذهابا وإيابا بتكلفة 50 ليرة للطالب الواحد،

لولا العمال.. (ما ضل ولا برغي)!

يقول لنا أحد القاطنين في الشركة بأن سكنهم بالمعمل وعدم تركهم له خلال اشتداد الأعمال العسكرية في المنطقة، أنقذ المنشاة من النهب قائلاً: (لو ما كنا نحنا وأولادنا هون وقت حبكت بالمنطقة لما بقي برغي واحد بالمعمل.. ولا برغي, قعدتنا هون منعت السرقة)  في حين أخبرنا أحد الإداريين عن غيرة هؤلاء العمال القاطنين على المعمل فهم دائما ينفذون أي عمل يصب في مصلحة الإنتاج والشركة حتى لو في منتصف الليل.

إلا أن البعض أشار لنا إلى أن عمالاً من القاطنين خرجوا من المعمل في أوقات التوتر الأمني الكبير في منطقة عدرا، وقد منعوا بعد الاستقرار من العودة إلى المعمل!.

التقينا أبو علاء صاحب العائلة الأكبر من بين العائلات المقيمة وعددها 16 شخصاً لم يغادر الشركة طوال السنوات الأربع الأخيرة هُجر من منطقة ( العتيبة) بالغوطة الشرقية. قضى 32 سنة وراء خطوط الإنتاج يتفاخر بتلك السنين، رغم مرارة ما يقابلها من راتب شهري 30 ألف! يحدثنا عن اشتياقه لبيته ولشجرات الزيتون المزروعة في أرضه الصغيرة، وعن تفاؤله بالأيام القادمة وبالمستقبل الآتي..

في الزيارة التي قامت بها «قاسيون» إلى معمل اسمنت عدرا، تجولت في الأقسام الإنتاجية الأساسية التي يتم بها إنتاج مادة الاسمنت، وفق التسلسل المرسوم للإنتاج، وكل مرحلة من المراحل يعمل بها عدد من العمال وفق الورديات الثلاث، كي تبقى عجلة الإنتاج بحالة دوران، وخاصة قسم الأفران. 

والملاحظ بهذه الزيارة، وخلال مرورنا على بعض الأقسام، أن عدد العمال المشاهدين كان قليلاً، مع العلم أن عدد العمال بالمجمل 685 عاملاً يتوزعون على الورديات الثلاث، وعلى هذا الأساس كان من المفترض رؤية ما يزيد عن مائتي عامل في الأقسام الإنتاجية، ولكننا لم نر سوى عدد قليل لا يتجاوز الأربعين عاملاً!

هذا يعني؛ أن قسماً إنتاجياً لا يعمل وبالتالي لا يوجد عمالة، أو أن المشرف على زيارتنا لا يريد لنا الدخول حيث تجمع العمال الأساسي، وبالتالي أيضاً لا يريد احتكاكنا مع العمال من خلال الحوار معهم والنقاش بأمر أحوالهم المعيشية والحقوقية، وهذا لم يحدث بزياراتنا السابقة لمعامل عدة قمنا بالإضاءة عليها من النواحي جميعها!؟