وجهة نظر في الحركة النقابية العربية وأفاق تطورها
بمناسبة قرب انعقاد مؤتمر الاتحاد الدولي للعمال العرب في مصر
الحركة النقابية العربية متشابهةً إلى حد ما في ظروف نشأتها الأولى التي تمثلت بالمواجهة على جبهتين:
الأولى: مقاومة الاستعمار وأدواته، التي نشأت وتطورت مع قدومه الذي تعرضت له معظم دولنا العربية وفق اتفاق سايكس بيكو المشؤوم.
الثانية: النضال من أجل تأسيس نقابات عمالية، مهمتها الدفاع عن حقوق العمال السياسية والاقتصادية والديمقراطية.
ما بعد الحرب العالمية الأولى نشأ وضع جديد في ميزان القوى الدولي مع انتصار ثورة أكتوبر عام 1917، التي كان عمادها العمال والجنود الثوريون، الذين حققوا الثورة وانتصروا لبرنامجهم في إقامة أول دولة للعمال والفلاحين، الأمر الذي كان له انعكاس كبير على الطبقة العاملة في مختلف البلدان، ومنها بلادنا العربية حيث كانت البدايات الأولى لنشوء وتكون الحركة العمالية والنقابية.
من نتائج الحرب العالمية الثانية، والانتصار على الفاشية النازية، نشأ وضع جديد على صعيد موازين القوى، وأصبح العالم أمام قوتين أساسيتين تلعبان دوراً كبيراً في الوضع الدولي، المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والمعسكر الإمبريالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة، هذا التوازن الجديد أيضاً عكس نفسه على الحركة العمالية والنقابية في العالم، حيث تمكنت الحركة النقابية والعمالية من انتزاع مكاسب هامة لها من الرأسمال، بسبب قوة المثل التي قدمها المعسكر الاشتراكي في تأمين وتثبيت مكتسبات الطبقة العاملة، من حيث الأجور والإجازات السنوية والحريات العامة، مما اضطر القوى الرأسمالية لتقديم تنازلات قسرية للطبقة العاملة في تلك الفترة، التي أطلق عليها مرحلة «الرفاه الاجتماعي» التي كانت فيها معادلة الدخل الوطني (أجور- أرباح) متوازنة إلى حد ما.
في أواخر السبعينات من القرن المنصرم، ومع مرحلة التراجع في دور المعسكر الاشتراكي، لأسباب عدة لسنا بصدد تناولها، وتقدم المعسكر الامبريالي، بدأت مرحلة الهجوم الواسع لقوى الرأسمال على قوة العمل من خلال تبني سياسات ونهج اقتصادي جديد أسموه «الليبرالية الجديدة» أصبح فيها دور الدولة هامشياً، بل خادمةً لقوى رأس المال، ضامنةً الحكومات لقيمة وسلامة الموارد المالية، التي من أجلها أقامت هياكل ملائمة لحمايتها (عسكرية- أمنية- قضاء – مراكز مالية)
كانت وما زالت قاعدة الانطلاق للسياسات الليبرالية على الصعيد العالمي، وأيضاً على الصعيد المحلي، هي(إعادة توزيع الثروة) لصالح النخب العليا، عبر الخصخصة وتحرير الاقتصاد من القيود والضوابط الناظمة، وانسحاب الدولة خارج نطاق العديد من مجالات الخدمة الاجتماعية.
لقد استجابت الدول في معظمها ومنها بلداننا العربية، التي نشأت فيها طبقات لها مصلحة في تبني السياسات الليبرالية، التي فرضتها المراكز الرأسمالية على بلدان الأطراف القريبة من هذه المراكز والبعيدة عنها، مستخدمةً المراكز المالية مثل: صندوق النقد والبنك الدوليين كأداة مباشرةً لفرض الشروط على اقتصاديات الدول، حيث كانت توجه هذه المراكز المالية الدول المتبنية للسياسات الليبرالية بإجراء «اصلاحات» مؤسساتية، كالخصخصة وتخفيض الإنفاق على شؤون الرعاية الاجتماعية وتخفيض الأجور ووضع قوانين أكثر مرونة لسوق العمل، تحت شعار «التكيف الاقتصادي البنيوي» والمقصود به أن تتكيف الهياكل الاقتصادية والمنظمات النقابية مع متطلبات التوجهات التي تعني تعزيز مركزة الثروة بأيدي 10% وحرمان الـ90% من الطبقات الشعبية، بما فيهم العمال، من حقهم في الثروة المنتجة التي تستحوذ عليها الـ 10% .
النقابات والسياسات الليبرالية
الحركة النقابية منظمة كفاحية يفرضها الواقع الموضوعي، المتمثل بعلاقات الإنتاج الرأسمالية المستحوذة على قيمة العمل الزائد، أو بالأحرى على منتوج العمل في قسمه الأعظم، والذي يشكل أحد مصادر الاستغلال للطبقة العاملة حيث ينشأ الصراع بين قوة العمل ورأس المال، وهو صراع سياسي واقتصادي.
لقد وعت القوى الرأسمالية، من خلال تجربتها المديدة، أهمية السيطرة والهيمنة على الحركات العمالية والنقابية، كونهما يستطيعان أن يشكلا إعاقة حقيقية لعملية الاستغلال والنهب إذا ما استطاعتا التحرر من السيطرة التي تفرضها الأنظمة على حركتها وقرارها، عبر تكبيلها بالقوانين والتشريعات التي تحد من قدرتها الدفاعية والهجومية في مقاومتها ودفاعها عن مصالح العمال، هذا من جانب والجانب الأخر تمكنت الأنظمة من تسريب كوادر نقابية، عبر انتخابات شكلية، إلى جسد الحركة النقابية كانوا بمثابة حصان طروادة الذي يمرر السياسات والتوجيهات التي تمليها الأنظمة في سياق دفاعها عن التوزيع غير العادل للثروة، وبهذا تمنع احتمالات المواجهة مع العمال وحركتهم النقابية، أي تستخدم تلك الكوادر كـ كاسري إضراب في الحركة العمالية، مما يؤخر ويعيق انتزاع الحقوق والدفاع عن المكتسبات التي تحققت في فترات سابقة من نضال العمال.
لقد لعبت الأنظمة بمجملها دوراً كبيراً، عبر تبنيها للسياسات الليبرالية الاقتصادية، في التأثير المباشر على حقوق ومصالح العمال السياسية والاقتصادية والحريات الديمقراطية والحريات النقابية، ولم تتمكن النقابات في مختلف المواقع من التصدي لتلك السياسات، وبالتالي ساهمت من حيث هي تدري أو لا تدري بخسارة العمال لحقوقهم عبر خفض أجورهم الحقيقية، بسبب ارتفاعات الأسعار وتحرير الأسواق والخصخصة، التي جرت في بعض البلدان العربية بشكل واسع أدت إلى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتهميش، بالمقابل تمركزت الثروة بأيدي قله قليلة على حساب المستوى المعيشي والحقوق الأخرى للطبقة العاملة، مما أثر تأثيراً بالغاً على مستوى العلاقة بين الحركة النقابية والطبقة العاملة، حيث اتسعت الهوة بين الطرفين وساد عدم الثقة بإمكانية التغيير الحقيقي لمصلحة الشعب ومنهم الطبقة العاملة.
لقد تماهت الكثير من الحركات النقابية في بلداننا مع سياسات الأنظمة السياسية والاقتصادية، إلى درجة دفاعها عن تلك السياسات تحت حجة تأمين الموارد للاستثمار، تلك الموارد التي سيجلبها المستثمرون الأجانب والعرب، التي تحمل في طياتها ومضامينها شروطاً سياسية واقتصادية تكون تكاليفها الاجتماعية والسياسية باهظة، وتحول شعوبنا إلى عبيد لتلك الرساميل التي لا تتحرك إلا وفقاً لتعليمات وتوجهات المراكز الإمبريالية، التي تبنت شعارها الجديد «الحرب الناعمة» بدلاً من التدخل العسكري المباشر، الذي تمارسه إن احتاج الأمر لذلك من أجل حماية مصالحها ونفوذها في منطقتنا.
الحركة النقابية وميزان القوى الدولي الجديد
أي تطور في دور الحركة النقابية، لجهة موقفها الوطني والطبقي، خاضع لميزان القوى سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي أو المحلي، وبالتالي فإن قدرة أية حركة نقابية على التكيف من خلال الفهم العميق لميزان القوى سيمكنها من صياغة رؤية وخطاب وممارسة صحيحة تجاه الدفاع عن حقوق ومصالح العمال، ولكن التجربة الحية لمعظم الحركات النقابية في بلداننا لم تستطع أن تصيغ تلك الرؤية والخطاب، المناسبين للممارسة الحقيقية في مواجهة السياسات الليبرالية التي لها كامل الحرية في التعبير عن مصالحها، بينما قوة العمل «الطبقة العاملة» مقيدة حريتها إلى حد بعيد، بفعل الأنظمة والقوانين وواقعها وارتباطاتها المتعددة، التي تجعل أيديها مغلولة ومقيدة لا تستطيع الحراك الفعلي في المصانع والمعامل ومراكز الإنتاج المختلفة.
إن واقع الحركات النقابية الذي قدمنا له، سواء لجهة علاقاتها بالأنظمة أو علاقاتها المباشرة بالطبقة العاملة، جعل إمكانية أن يكون لها دور حقيقي وفاعل تقريباً معدومة، وبالتالي هذا الواقع جعل القوى المعادية لمصالح الطبقة العاملة أن تنفذ إلى جسدها، عبر شعارات تعبر عن مصالح العمال وحقوقهم، وهذا ما جري في العديد من البلدان العربية، حيث استطاع الاتحاد الحر النفاذ الى قلب الحركة العمالية في شعاراتها الأساسية المعبرة عن مصالحها وتوجيهات المراكز الامبريالية المباشرة، تحت شعار حق يراد به باطل هو(التعددية النقابية والنقابات المستقلة) هذا العمل لعب دوراً مهما في تفتيت وحدة الطبقة العاملة وحركتها النقابية، وجعلها محكومة في حراكها لمصالح تلك المراكز عبر الاتحاد الحر، ولكن يبدو أن الطبقة العاملة في المواقع المختلفة بدأت تعي هذا التضليل وأخذت تتحرك كتعبير عن مصالحها الجذرية، بعيداً عن الشكل القديم الذي فقد إمكانية تطوره، وتتخلص من قيوده المكبلة له وبعيداً عن الشكل الجديد الذي مضمونة السياسي والطبقي لا يعبر عن مصالحهم الجذرية كما ذكرنا.
يتصاعد الآن النضال الإضرابي العمالي في مواقع عديدة هامة، مثل مصر وتونس والمغرب والعراق، وهذا التحرك العمالي يأتي في ظل تغير حقيقي في موازين القوى، مما يعني إمكانية تصاعده وانفتاح الأفق أمامه على أساس شعارات طبقية ووطنية تعبر عن المصالح الحقيقية للطبقة العاملة، وبالتالي فإن المارد الجديد للحركة العمالية بدأ يخرج من قمقمه ليقول للقوى الرأسمالية في الخارج والداخل كفى استغلالاً ونهباً لثرواتنا ولمنتوج عملنا.