من طلاب فقراء.. لعمال أُجراء
يعود قسم من الأطفال والفتية الذين اشتغلوا في العطلة الصيفية كعمال موسميين للالتحاق بمدارسهم, فيما يبقى القسم الآخر منهم على رأس عملهم يتابعون عملهم المأجور, ليس رفضا للدراسة بل رفضا للعوز والحرمان الذي أصاب الأسرة السورية بفعل التدهور المتسارع للوضع المعيشي الكارثي.
لا يعد تواجد الأطفال في سوق العمل غير المنظم وجودا طارئاً أو جديداً لطالما تواجدوا في المشاغل والورشات والمعامل، وبأغلب المهن والحرف والأشغال، ولكن النسبة الأكبر من هؤلاء الأطفال العمال تواجدوا بصفة عمال موسمين، يدرسون في فصل الشتاء، ويشتغلون في فصل الصيف كونهم ينحدرون من أسر عمالية ومهنية تدرك بوعيها الفطري الطبقي من جهة، وبتراكم تجاربها الخاصة وظروفها المعيشية من جهة أخرى، أهمية التحصيل العلمي للطفل، وأيضاً ضرورة تسلحه بمهنة تؤمن له أجراً يمنحه حياة كريمة على مبدأ ( بإيدو مصلحة إذا فشل بالدراسة) وبموازاة ذلك يتواجد الأطفال العمال الذين تركوا مدارسهم أو لم يدخلوها أساساً، والتحقوا بسوق العمل كعمال وشغيلة يدفعهم لذلك الفعل، فقر حالهم وتواضع معيشتهم، فحاجة الأسرة لأجرهم على مبدأ (بحصة بتسند جرة) تجعلهم مضطرين للتخلي عن تعليم أولادهم والدفع بهم للعمل.
من رغبة التعلم لضرورة الأجر
اختلفت الغاية من عمل الأطفال عبر العقود الأخيرة باختلاف السياسات الاقتصادية المتبعة في البلاد، حيث كانت الغاية الأساسية لعمل الأطفال هي أن يتعلموا مهنة أو حرفة دون الاهتمام بالأجر الممنوح لهم، فهم يأخذون أجراً زهيداً جداً لا يتعدى أجور النقل، وقد لا يحصلون على أجر أبداً لعدة سنوات، وفي مهن معينة يدفع الأهل لرب العمل مالاً مقابل تعليم طفلهم للمهنة، وفي المرحلة التالية التي شهدت زيادة دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وتوسع القطاع العام الزراعي، والصناعي، وإحداث الثانويات والمعاهد الصناعية وتضخم جهاز الدولة وتطوره الذي تزامن مع فرض إلزامية التعليم للمرحلة الابتدائية، تغيرت الغاية من عمالة الأطفال وتراجعت نسبة التسرب الدراسي، وبقيت بحدودها الدنيا وفق الدراسات المختصة المحلية منها والدولية، إلى أن بدأت التحولات الكبرى بالسياسات الاقتصادية التي انتهجها النظام السياسي عبر حكومات متتابعة، أقرت تلك السياسات الاقتصادية الليبرالية المفصلة على مقاس رؤوس الأموال والمعادية بشكل واضح وكبير للعاملين كافة بأجر، فبدأت مكنات النهب بشفط ما أمكنها من جيوب الشريحة المعتاشة على أجرها، بخفة أيدي النشالين تارة، وبوقاحة السالبين بواسطة السلاح تارة أخرى، فتراجع الوضع المعيشي للأسر المعتمدة على الأجور بشكل كبير ومتسارع، ولم يعد يكفي أجر واحد لتأمين مستلزمات الأسرة، مما دفع بأعداد هائلة من الأطفال والفتية لسوق العمل، ولكن هذه المرة ليس من أجل تعلم مهنة ما، ولا كعمال موسميين، بل من أجل الأجر بحد ذاته، فبيعت قوة عمل الأطفال- بثمن بخس- وأصبحوا كغيرهم من العمال غير المنظمين يخضعون لقانون العرض والطلب الذي يتحكم به أرباب العمل، وهؤلاء الأطفال البروليتاريين جميعهم ليسوا أولاد مسؤولين أو ذوات، أو تجار، أو أرباب عمل، بل هم حصرا أولاد ذوي الدخل المحدود والأسر العمالية والفقراء.
رحمة من أرباب العمل أم استغلال فاضح؟
أثقلت الأزمة الوطنية الكارثية على الأسر المعتمدة على الأجور، وتدهورت أوضاعهم المعيشية بشكل حاد، فآلاف الأسر فقدت معيلها الوحيد، وفرضت عليهم واقعاً جديداً، فانتشر أطفالهم بين المشاغل والورش للعمل بأجور تحميهم من الجوع والتشرد، والعوز الشديد، مما أعطى أرباب العمل أداة تحكم جديدة برقبة العباد، فهم الأقدر على استغلال هذه الفرص، حيث يعتبر الطفل العامل عنصر ربح إضافي لهم، فأجره لا يتعدى ربع أجر العامل الكبير، وهو أكثر رضوخاً لشروط العمل المفروضة على الجميع، وأغلب أرباب العمل لا يراعون طفولتهم فيدفعون بهم لأعمال لا تتناسب مع ضعف أجسادهم ولا مع وعيهم، فرب العمل لا يهمه في نهاية الأمر سوى مراكمة أرباحه، وما حديثه المعلن بأن سبب عمل الأطفال لديه هو طمعه بالثواب الإلهي، والمباركة برزقه إلا نفاقاً وغطاءً يسمح له بامتصاص ما أمكنه من قوة عملهم وتعبهم وعرقهم، فأولاده ينعمون بنعمة التحصيل الدراسي والاستقرار المادي والاجتماعي، نتيجة استغلاله لأطفال الآخرين، وليس لأن الله يجزيه خيرا لرأفته وسماحه لبعض الأطفال المحتاجين للعمل لديه.
تكثر التصريحات والدراسات والبرامج الإعلامية التي تتحدث عن خطورة ظاهرتي التسرب الدراسي وعمالة الأطفال، معتمدة على الأرقام المخيفة التي تصدر من هنا وهناك وعن مدى توسعها وتمددها بفعل استمرار الأزمة التي اقتربت من عامها الخامس، ويبتدع الدارسون والسياسيون عشرات الحلول التي لا تلامس جذر المشكلة وأسبابها، إن الحل الجدي والحقيقي لهذه الظاهرة ،هو بإنهاء الأزمة عبر الحل السياسي الذي يحافظ على ما تبقى من دور للدولة عبر ومؤسساتها، وذلك بالبدء بعملية التغير الجذري للنظام الاقتصادي الاجتماعي باتجاه نظام ينطلق من مصلحة الطبقة العاملة وسائر الكادحين، لبناء وطن يستطيع أطفاله أن يتعلموا ليعمروا فأينما نجد الفقر والتهميش، سنجد الجهل والتسرب الدراسي وعمالة الأطفال.