«مغامرة» للكازاخستاني ناريمان توريباييف.. دوستويفسكي لا يُمّل
زياد الخزاعي زياد الخزاعي

«مغامرة» للكازاخستاني ناريمان توريباييف.. دوستويفسكي لا يُمّل

78 دقيقة سينمائية لن تختزل العقيدة الروائية للروسي فيدور دوستويفسكي في اقتباس الكازاخستاني ناريمان توريباييف المعنون بـ«المغامرة» («المسابقة الرسمية» الخاصّة بالدورة الـ 49 لـ«مهرجان كارلو فيفاري السينمائي» ـ تموز 2014).

هذا زمن أفلمة مبتسرة لن يجرؤ على فعلها سوى مغامر في القصّ والإختزال المشهدي. مهووسو مؤلّف «الإخوة كارامازوف» و«الأبله» يواجهون عقبة عصيّة، بحسب عبارات ستيفان تسفايج في «بناة العالم» (ترجمة محمد جديد. منشورات «دار المدى». 2003): «لأنه يخيّل للمرء، للوهلة الأولى، أنه يجد عملاً مغلقاً على نفسه، ثم يكتشف شيئاً لا حدود له، كوناً له أفلاكه الدوارة الخاصة به، موسيقاه الأخرى التي تتردّد في أجوائه. يصاب العقل باليأس من استقصاء هذا العالم في يوم من الأيام من دون أن تبقى منه بقية، فسحره بالغ الغرابة لدى المعرفة الأولى». هذه الرؤية تنطبقن بوحدة حاسمة، على «أقصوصاته» مثل سردياته الكبرى. فـ«أب» راسكالينكوف لا يمتّ الى زمن رواياته بصلة وحسب، بل إلى دهور «الحياة الطيبة القاسية، والربانية المستغلقة على الفهم، والمستعصية أبداً على التعلّم، والصوفية أبداً». هذه الحِكَم كلّها متوفرة في عوالم حكاية «الليالي البيضاء» (1848)، حيث ان إرادة بطلها الدمث مجبولة على تفخيم سعادته العصيّة بظنون أن وَحْشَة شابة طافحة بالحيوية تنتظر، عند زقاق مهجور، موعداً غرامياً ليلياً لن يتم، إنما هو قدر سماوي يملأ خلواته وتأمّلاته، ويستكفي رومانسيته وفتنة أحلامه. في اقتباس توريباييف المنقوص، نتعرّف على حارس ليليّ شاب منطو وكتوم، لكنه عملي. عفيف النَّفس ومقدام، لكنه مجروح الخواطر. لئن جعل دوستويفسكي من عزلة بطله ذريعة لجيلان طويل يمتد على أربع ليال، مرفوقة بحواريات إختزالية، يعبّر فيها عن خواطره المتضاربة، فإن مارات ـ تويبارييف يبقى أسير روتين عمله وغرفته المتقشّفة، باعتباره كائناً أثيرياً موعوداً بالمغامرة واللوعات.

حينما ذاد عن الحسناء ناستنكا ـ مريم (إينور نايازوفا) من إعتداء رجل سكّير عليها عند حافة مُتنزَّه عام وسط العاصمة «ألما آتا»، تتحقّق الأولى. يترافقان في «ارتحالات» إلى مناطق مختلفة من المدينة الحديثة. يلتقيان بشراً متنوّعي الأحوال والمصائر والهِدايات. ما يتبقّى منها، تراكم عاطفي في كيان مارات (عزمت نيغمانوفا)، يتحوّل لاحقاً إلى عشق صامت، يتحيّن فرصة الإعلان عن لواعِجه. دَرَى الشاب أن فتاته تنتظر حبيباً ضرب لها موعداً يخلفه كل يوم، بيد أنه يمسك بلوعته من أجل يقين غير حاسم، لكنه لانهائي. في اقتباس المعلّم الإيطالي لوكينو فيسكونتي للرواية في العام 1957، تصبح المدينة وزراً على بطليه، لا تُسهِل منافذ الحسم بينهما. يُهان ماريو (مارتشيلّو ماسترياني) ويُضرب، بينما تكون ناتاليا أقل عفّة. أما الفرنسي روبير بريسون فجعل محيط بطله الرسام الشاب جاك في «أربع ليالٍ لحالم» (1971) عقبة أمام إبداعه، بينما حوّلت الحبيبة مارت ليل باريس، الذي تحرسه أغاني موسيقيين جوّالين وقيثاراتهم، إلى «نَعْوَة» حداثية لمدينة سياحية خرساء. في المقابل، رحّل الأميركي جيمس غراي عوالم دوستويفسكي إلى قلب الغيتو اليهودي الروسي في نيويورك المعاصرة. يتولّه ليوناردو (يواكيم فينيكس) بحبيبتين دفعة واحدة، بعد جيلان عائليّ هادر. بطل مُشوَّش وأخريات محمومات بشغور عواطفهن.

على منوالهم، أضاف صاحب «رجال صغار» (2003) و«أيام مشمسة» (2011) عنصراً ميلودرامياً لافتاً للإنتباه، وإن لم يكن كافياً، قائماً على تضادّ دوافعهما. رجل حالم، يؤمن أن أحواله لن تتغيّر، وامرأة قوية الإرادة، تعلن شراستها وخطورتها. الأول كائن انضباطي يحمي. الأخرى هوجاء تتجاسر. يرغم الهيام الشاب على الامتثال لنزواتها. فزيارات الأماكن التي ترغب فيها المعشوقة تصدّع تربيته الشخصية المجبولة على الحياء، قبل أن تأتيه الضربة القاصمة مع عودة الحبيب الغائب، ونهاية إيثاره بأن «تهتدي» مريم إلى غرامه. تتحوّل المدينة إلى بيت واسع المساحة، ثريّ النوازع. غير أن مارات يبقى ضمنها ابن غربته وخيار انزواءات غلب على مشهدياتها مزاج لوني رمادي كامد، حيّدت تفاصيل لقطاتها، وبدت كأنها مفرّغة من الحيوية.

الدقائق الـ 78 في فيلم توريباييف، على عكس الاقتباس المميّز لمواطنه داريزان عميرباييف «طالب» (2012) عن «الجريمة والعقاب»، غير كافية لإقناع مُشاهدها بحجّة أن الحب يحتاج إلى «مغامرة» كي تصيب القلوب مراميها. لكن المؤكّد فيها أن السينما لن تملّ فيدور دوستويفسكي وعوالمه مطلقاً.

 

المصدر: السفير

آخر تعديل على الخميس, 28 آب/أغسطس 2014 21:28