الضرورة أُمّ الفنون.. (الجزء الأول: فائض من المشاعر)
انطلقت الحركة الشعبية في العالم أجمع وفق تبدّلات نوعية، بعدما أطلقت المقاومة الفلسطينية معركة طوفان الأقصى ضد الاحتلال «الإسرائيلي»، فتبين أن الكلام المجرد هو تعبير داخلي عن جملة من حقائق محسوسة، توصف القضية الفلسطينية، بأنها قضية شعوب العالم، وتشكل نواة حركتهم الشعبية للتحرر من المنظومة الرأسمالية المتعفنة. فمن الحالة الأولى للحركة عند «نقطة الانصهار»، بالتزامن مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987 – 1993)، إلى حالتها الثانية عند «نقطة الغليان»، بدفع من الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000 – 2005)، حتى دخولها إلى نوعية جديدة بفضل المقاومة الفلسطينية. كل ذلك أثار جملة من التساؤلات عند الجماهير الشعبية، حول تأخر ظهور «حركة فنية ثورية» ترتقي إلى مستوى التغيرات الكبرى، وتساهم في تكوين المشروع الحضاري الجديد.
بكل تأكيد ظهرت نتاجات فنية ثورية خلال العقود الثلاثة الماضية، وبشكل خاص في جنوب العالم الفقير، لكنها لم تصل بعد إلى مستوى عالٍ من التأثير في المرحلة الراهنة، فلم تنطلق بعد «حركة فنية ثورية»، تساهم في تطوير المسارات السابقة للفن الثوري والتقدمي، وتموضع خطوطه على طريق ثورة الشعوب. لتبدو تلك النتاجات الفنية في حالة يمكن تسميتها اصطلاحاً «شرارات فنية»، تحدث بعدما يبذل الفنانون جهوداً جبارة، وتحديداً الفئة الشابة منهم، لإحداث اختراق في المنظومة الرأسمالية، حتى يصلوا إلى الجماهير الشعبية، وعليه تتقلص حدة الاغتراب. وعلى الرغم من أن وعي الناس والفنانين على حد سواء، قد يميل من جديد إلى القناعة الراسخة، باستحالة ظهور «حركة فنية ثورية»، وكأن الشرارات الفنية مجرد ومضات سريعة اخترقت ظلمة المكان، ثم تلاشت كأيام جميلة، ولأن أجمل الأيام تلك التي لم تأت بعد، فإنه يترتب علينا التفكير بها، فماذا تحتاج الحركة الفنية الثورية؟ ومتى؟ وأين؟ وعلى يد من ستظهر؟
سنقدم لكم مساهمتنا الأولية في تحليل هذه المسألة، عبر طرحنا لثلاث فرضيات، ستكون محور هذه المادة بأجزائها الثلاثة «فائض من المشاعر – الدماغ الاجتماعي – التفكير الدرامي».
فائض من المشاعر
ساد اعتقاد بأن الإنسان يولد ومعه «موهبة الفن»، وكل ما يترتب على الآخرين، أي الوسط المحيط به، بأن يكتشفوا موهبته الدفينة، ويقدموا له الدعم لإخراجها، وهو بدوره ينبغي عليه أن يصقلها، ويعتني بها، ما يعني أنه سيكون في المستقبل فناناً صاعداً وواعداً، أما الإنسان ذو نصف الموهبة، ولديه اهتمام كبير بالفن، سيبقى نصف فنان، وإذا ثابر بعمله، سيصبح فناناً حاذقاً، وليس فناناً مبدعاً. لكن طبيعة المرحلة الراهنة، قد أزاحت ذاك المعيار البائد الذي ترسخ في الوعي الاعتيادي لمرحلة طويلة، مثلما فعلت مع معايير أخرى كثيرة، وعليه نعيد صياغة المسألة من موقع الماركسية-اللينينية، ونقدم فرضية تذهب بالقول، بأن أي إنسان في هذا العالم يحمل بداخله إمكانات غير محدودة، ولا نهائية بطاقاتها، تفتح له المجال لكي يعبر عن مشاعره ومشاعر الآخرين عبر أداة فنية معينة، ويمكن الافتراض بأن الجانب الأساسي من تلك الإمكانات، يكمن بوجود «فائض من المشاعر». وكلما زاد هذا الفائض داخل الإنسان، كلما زادت الحاجة الماسة لديه إلى التعبير من خلال بنى فنية جديدة.
إن الواقع الاجتماعي هو الذي يحدد وجود الفائض من المشاعر، وإن هذا الأخير، يتكون بشكل أساسي في زمن هبوط ثورات الشعوب، وعليه يتشكل في عمق المجتمع، أي في القاع المظلم، ليبدو شكل المجتمع، مثل جبل جليدي ضخم، بعدما تصل الحركة الشعبية الثورية إلى ذروة انحدارها، وأثناء دخول الحركة طور صعودها العام، تطفو على السطح المشاعر المكبوتة. وبناء على ذلك، يمكننا أن نفترض أن المجتمع لديه الوعي، ما قبل الوعي، واللاوعي، «conscious, preconscious, and unconscious»، وسوف نتوسع بهذه الفرضية في الجزء الثاني من المادة «الدماغ الاجتماعي».
مما لا شك فيه بأن ارتفاع منسوب الفائض يختلف من شخص لآخر، وعليه سيكون مسار العمل في الفن بشكل مستمر، حاجة ماسة للأشخاص الذين لديهم ارتفاع هائل في منسوب فائض المشاعر، وفي معظم الحالات سيتم تصريف هذا الفائض وفق شروط السوق الفنية. ومن هنا يمكننا أن نقدم تفسيراً يبسِّط المعقَّد حول طبيعة السوق الفنية. فإن مفهوم السوق، يعني قبل أي شيء تحقيق الربح، وإن هذا الأخير يشترط علاقة بيع وشراء، لكن الأمر بالنسبة لفئة الفنانين في المجتمع، مختلف عما يحدث مع طبقة العمال بأجر، أي عندما يبيعون قوة عملهم، فيحقق الرأسمالي الربح من خلال استغلالهم، بعدما تكتمل دورة الإنتاج. فإن فئة الفنانين تبيع فائض مشاعرها، لصالح شركات الإنتاج، وهذه الأخيرة تستغلها لغايتها في تثبيط مشاعر الجماهير، أو تحوير مساراتها نحو طريق معاكس لمصالحها، وعليه تقدم بالمجان نتاجات فنية تكلفتها طائلة. وإن هذه الحالة كانت في الطور العام من هبوط الحراك الشعبي العالمي، أما في مرحلتنا الراهنة، مرحلة ثورة الشعوب، فإنهم يستغلون هذا الفائض من المشاعر، بغاية تقسيم الجماهير الشعبية، وضرب حالتهم الوجدانية، وقيمهم الروحية، وتحطيم دور العائلة الأساسي بالنسبة لهم، حتى الوصول إلى تفتيت بنيتهم «الثقافية - الاجتماعية». وصحيح أن إمكانية مناورة الفنانين في السوق الفنية، لا تزال قائمة، لكن ينبغي الانتباه إلى أنها تضيق أكثر من ذي قبل، لدرجة أن الفنانين سيتحتم عليهم في المنظور القريب، أن يختاروا طريقاً من طريقين لا ثالث لهما، إما أن يكون مسار عملهم مرتبطاً عضوياً مع مصير الشعوب، أو سيكون مرتبطاً عضوياً مع مصير سادة المنظومة الرأسمالية. وقولنا هذا ليس بافتراض، إنما هو واقع حقيقي، فرضته معركة طوفان الأقصى ضد الاحتلال «الإسرائيلي».
إننا عندما نقول بأن هناك شيئاً يدعى «فائضاً من المشاعر»، نعني أن قولنا يتقاطع مع قول تولستوي، حين اعتبر أن «الفن شرط من شروط الحياة». وعليه نضيف أن النشاط الفني المكثف للجماهير الشعبية، كجزء لا يتجزأ من نشاطهم المادي، هو الذي يحدد المضامين الفنية الجديدة، وهو الذي يقدم البنى الفنية الجديدة، وإن مهمة الفنانين، تكمن بالعمل بضمير حي، على صقل المواد الخام التي قدمتها الجماهير لهم. بناءً على ذلك يمكننا إضافة تفسير جديد حول العدد اللانهائي من الأشكال الفنية المختلفة التي تشاركها الجماهير الغفيرة على الشبكة العنكبوتية، مع مقاومتهم للاغتراب، بعدما تم الدفع بهذه الأداة لتصبح سلعة، تعمل وفق شروط السوق الفنية ذاتها. وهنا تجدر الإشارة، بأن تأخر ظهور المشروع الحضاري البديل، سيعطي المالك الأساسي للبيت العنكبوتي، أي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، مزيداً من الوقت لاستغلال الطفرة التاريخية، من خلال سحب بيانات الجانب الشعوري لدى الجماهير الشعبية العالمية، وعلى الأرجح ستكون هذه البيانات جزءاً أساسياً من السلاح الجديد الذي يجهزه الأمريكي، كما جهز سلاح «القنبلة الذرية»، عندما كانت الجماهير الشعبية تعيش الطور العام الثاني من صعود حركتها الثورية.
إن مهمة اليوم أصعب بكثير مما كانت عليه في الأمس، رغم أن منحنى خط حركة التاريخ يسير باتجاه التحرير والتغيير، وإن الرأسمالية تعيش أزمتها الشاملة وربما النهائية، وفي نهاية المطاف سيصبح هذا اليوم مجرد ماضٍ.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1155