شُبّهت بالملاحم
بتفكيك المنتج الدرامي التركي بعد ظفره العظيم على القنوات الهزيلة ستظهر إحدى الإجابات عن التساؤل الأكثر شيوعاً الذي رافق الدراما التركية و هو سبب انتشارها.
لقد لفتت الانتباه عبارة تسبق عرض أعمالها الضخمة تدلل على الإجابة هي عبارة ملحمة، كملحمة وادي الذئاب _ ملحمة إيزيل _ ملحمة الأرض الطيبة – ملحمة أسمر – كوسوفي .....
بنظرة خاطفة على تلك الكلمة الترويجية، سيبقى الفهم مقتصراً على أنها مبالغة إعلامية تعتمد على مهارات التسليع و التسويق، لكن عند إسقاطها على بنية الكتابة في تلك الدراما، ستكون كلمة ملحمة، الأقرب استراتيجياً إلى نوعية تلك الكتابة الدرامية، كل ذلك بعد غض النقد عيونه عن مستويات النضج و التماسك البنيوي وعن سخافة القيمة الفنية التي شاءها السوق للتسلية والتعميم والتعتيم. تكمن الحركة الخفية في تلك النصوص وعند الإخراج، في انتهاج ركيك للبنية الفنية للملحمة، ربما يبدو التقارب مستهجناً لكن ظهور محطات التقارب سيبين الاستراق الذي جعل تلك الأعمال المفتقدة للحس الشعبي وللوعي الطبقي للمجتمع التركي تركض في الإنتاج الدرامي، قد يعتقد البعض أن هذه الأعمال لا تملك رؤية فنية تسويقية خارج الزخرفة التصويرية والإثارة المبتذلة، إلا أن هذه ليست سوى أدوات و ضرورات لرؤى فنية مركزية أخرى .
لقد اختارت إرادة هذا السوق بعض خصائص الملحمة وبعض خصائص السير الشعبية لتطعِم فيها الدراما التركية مستثنية الحس العميق للملحمة، والمناخ الشعري القصصي التصويري المتراكم ، وهو المسؤول الأقوى عن لذة الملحمة وعبقها التاريخي، نداؤها السير و الملاحم كان لالتقاط ما يناسبها وليس لمحاكاة جدية عالية التأثير والبقاء، فالعنصر الأساسي في أغلب الملاحم الكلاسيكية (النواة ملحمية ) يسترق في تلك الدراما، وهو رحلة البطل للبحث عن زوجته أو عن سر قديم أو لغز وتعرضه عندها للأهوال والمصاعب والمخاطر لتظهر تصرفات البطل قوية صلبة تحمل كل ما في البطولة من سمو – حتى في طريقة الأكل واستخدام الأسلحة و طريقة العيش و الحب - ،وهنا تتطابق وظائف قصص العشق بين الملاحم والسير وبين المسلسلات التركية، حيث تغدو تلك القصص وسيلة فنية غير مفتعلة لربط الأحداث موضوعيا ولتنمية الأحداث منطقيا و لكنها تظل سطحية الظهور، ووسيلة فنية لملء الفترات الزمنية التي تتوقف فيها الإثارة فتخفف من سكون الحركة ، وهي وسيلة سيكولوجية لإحداث التوازن في شخصية البطل بين العدوانية والقوة وبين المشاعر والحب ، أما الذي يحمي البطل و يبعده عن هذه الأهوال البركة والعناية الإلهية عند اقترابه من الموت فقط أو في لحظات الانتصار دون عون فيزيقي محسوس (1)، و يلاحظ أيضاً صفة مشتركة أخرى هي عدم نضوج الشخصيات بالرغم من كل ما تلقاه وتعانيه أي عدم الدخول في تحولات و تغيرات المستوى و البعد النفسي و التكوين الثقافي و الاجتماعي بعمق قد يعيق الإنشاد الظاهري (العرْضِي) ، تتابع الأحداث في الملحمة، و كذلك في الدراما التركية، بصور متلاحقة مصفوفة خلف بعضها و ليس برسم تصاعدي مترابط ، فالملاحم لا تعنى بالتمركز حول حدث ما ثم صياغته بمنطقيته إنما تعتمد على طريقة التراصف و الاصطفاف فالحدث هو صورة مفصولة، والصورة هي حدث كامل منتهي فنيا عما يليه، بهذه التقنية ترسي الملاحم على أحداثها، وعلى حكايتها الإثارة و التشويق، و الأهم هو التوثيق لذلك فهي لا تعنى بمعالجة قضية و استقصاء جذورها، وهنا يصبح لزاماً على هذه الدراما التي تقلد التقنية نفسها _ تقنية الصورة الدقيقة و المنتقاة زاويتها الأفضل عند التصوير ومن ثم استخدام الألوان و الأماكن المزخرفة _ أن تؤثث جوهر العمل عبر الحدث (الصورة )، أما (الحكاية ) و مع صعود هذا الحدث (الصورة ) كجوهر للعمل تبتعد عن الأبعاد والألعاب السردية وتهمل (الوحدة العضوية) كأسلوب الرواية المتلفزة أو الفيلم الروائي أو الصراع المسرحي التلفزيوني ، لتدنو من سمة تتفرد بها الملاحم وهي ما « يأتي في نهاية الأمر مجموعة منفصلة أو مستقلة من القصص أو الحكايات، لا يربط بينهما أحيانا إلا وحدة البطل أو وحدة العصر أو وحدة المكان «، فباختصارها على العموميات، كالحب والانتقام و الخيانة و القتل والخوف و الشجاعة تصبح وقود الحدث (الصورة) فقط ...، ولو شاءت الحكاية غير الملحمي (الظاهري) لاقتربت من التصاعد الدرامي الذي سيكثر فيه الحوار والتأزم الدرامي (الذروة)، و ابتعدت عن التراصف الصوري .
لقد التهمت تلك الدراما من الملحمة خصائص، اعتمدت على ربط الظواهر الإنسانية و ليس على معالجتها ، وعلى استزادة الأحداث و الوقائع و الغرائب لا على دراستها، وعلى تكرار المواقف لا على نهوضها من رحم العمل، وسعت إلى زج التناقضات في الشخصيات و التقاليد بعيداً عن تفكيكها _وأكثر ما يجاد هذا الغريب والمستهجن والمتناقض في الملاحم والسير _. في الدراما التركية وحدها أو في التي تشبهها قد ترى شخصية شرقية بلباسها و عاداتها وشاربيها تصطدم أو تتحالف مع شخصية من المجتمع نفسه تبدو غربية (أوربية) بانفعالاتها و طريقة تصرفها، دون إيضاح الأطر الاجتماعية لهذا التعايش، لقد أرادت في هذا الطرح المتناقض للشخصيات إخفاء أو تهميش الشخصية التركية (الشخصية القومية )، والتي قد تكون اليوم مأزومة للتهرب من جوهرأزمتها الكامن في قلق الاندماج بين قومياتها ،ثم لتأذّي الأنماط السلوكية _ التي تبين بحسب علم الاجتماع تكون وتبلور الشخصية القومية_(2) لأفرادها ، حيث كان في القديم عدم استقرار المجتمع التركي أو الدولة العثمانية، وحديثا منذ عتبات الثلاثينيات قلة استيعاب مكانها بين سلالم العالم (المهدد الأكبر للتوازن النفسي الثقافي)، والانفتاح المحموم المهووس نحو الغرب، و امتداح الثقافة المعولمة والاقتصاديات العابرة ...لذا فهي لم تفلح في إخفاء افتقار صناعها للنضج السياسي و الاقتصادي و للوعي الطبقي الحقيقي لبنية المجتمع التركي، لكن تحايل افتقارهم المربك في استقطابه الطريقة الملحمية ليتوه المشاهد عن خوفهم من مقارعة مشاكل و نواقص و مفارقات و انحرافات واقع المجتمع التركي .
+ (2)_ ارتكز المقال على مجلة عالم الفكر_الملاحم + التراث الشفهي ودراسة الشخصية القومية _ المجلد السادس عشر _ العدد الأول _ إبريل _مايو_ يونيو _ الكويت 1985 .