«الملكة مارغو» لدوما: التاريخ كما يمكنه أن يكون
قبل سنوات من رحيله المبكر، حين عرض الممثل والمخرج الفرنسي باتريس شيرو، فيلمه «الملكة مارغو» من بطولة ايزابيل آدجاني، في واحدة من أزهى دورات مهرجان «كان» السينمائي، كان أول تعليق له على الفيلم إشارته إلى أن كاتب الرواية ألكسندر كان دوما «واحداً من أعظم كتاب السيناريو السينمائي» في تاريخ الفنون.
ويومها جرى التذكير بأن السينما تناولت بنجاح في أغلب الأحيان، معظم روايات دوما، وليس في فرنسا وحدها. كما جرى التذكير بقدرة هذا الكاتب الفذ على تصوير موضوعاته ورسم شخصياته، منذ ما قبل اختراع فن السينما بزمن، في شكل يجعلها حية بيننا، حتى وإن كانت المواضيع نفسها تتسم بشيء من العادية. والحال أن «الملكة مارغو» تشكل استثناء حتى في عالم الكسندر دوما، حتى وإن كانت - كرواية - تنتمي إلى سلسلة رواياته التاريخية التي يبدو انه آلى على نفسه فيها أن يتابع أحداث التاريخ الفرنسي، من خلال شخصيات مميزة لعبت دوراً فيه، خلال هذه المرحلة أو تلك. ذلك أن «الملكة مارغو» رواية تدور أحداثها من خلال شخصياتها الرئيسة التي هي محور العمل ومحور المؤامرات، لا من خلال شخصيات تكون بطولتها في الرواية سنداً لإنقاذ مكانة شخصيات أخرى، كالفرسان الثلاثة الذين يقوم دورهم في «حماية» التاريخ الرسمي، من دون أن يكون لهم همّ التطلع إلى أن يحلوا في المكان الرسمي محل الملك أو وزرائه أو ما شابه. هنا يبدو التاريخ لدى ألكسندر دوما منظوراً إليه عبر فاعليه الحقيقيين، أهل الظل والكواليس، لا عبر شخصياته التاريخية الحقيقية.
في «الملكة مارغو» يبدو التاريخ مروياً عند المستوى الأول، مستوى الشخصيات التاريخية الحقيقية التي ليس هناك خلاف من حولها أو من حول وجودها. وهذا ما يجعل الكاتب مرغماً على عدم الابتعاد من التاريخ الحقيقي المدوّن لمصلحة إطلاق العنان لخياله، يبتكر ما شاء من شخصيات ومواقف. ومن الواضح أن هذا الأمر يحدّ من قدرة الكاتب على التلاعب بالتاريخ، فيكون البديل أن يغوص في تفسيره وتحليل أهدافه وسيكولوجيات شخوصه، ما يعطي حتى التاريخ المكتوب المعروف نكهة جديدة وأبعاداً قد لا تكون متوقعة. ولكن لكي يتمكن كاتب في ذلك الزمان الما - قبل - فرويدي، من الوصول إلى مثل هذا المستوى من الحكي التاريخي، كان عليه أن يكون شيئاً ما بين شكسبير وستاندال. وبما أن ألكسندر دوما لم يكن لا هذا ولا ذاك، ولا ذلك الشيء بينهما، بما أنه كان من نوع الكتاب الذين يتجهون، للسهولة أو لمحدودية الأفق، نحو رواية الأحداث في سطحها الخارجي، ومحاولة تفسيرها من طريق الربط «البوليسي» في ما بينها، أكثر مما من طريق تحرّي الأبعاد السيكولوجية لدى الشخصيات، تصبح الرواية التاريخية مجرد رواية تاريخية لا أكثر: تصف الأحداث المعروفة، تموضعها ضمن إطار سياقها التاريخي لا أكثر، وتذكّر بالأدوار التي لعبتها الشخصيات. وأكثر من هذا بالأدوار التي لعبتها العلاقة بين الشخصيات في مجرى الأحداث. وفي مثل هذه الحال، لا يعود الموضوع: «لماذا حدث هذا الأمر الذي نعرفه»، بل «كيف حدث؟». فإذا كان من الممكن أن يتبقى قدر من المتعة في القراءة بعد ذلك، تصبح المتعة متعة استعادة المعروف من الأحداث والتذكير بها لمجرد أن تصبح - إذا كان في الأمر رسالة يجب إيصالها - درساً وعبرة. وفي هذا الإطار لا يعود ثمة فارق كبير بين الرواية التاريخية والتاريخ المروي. ولعل هذا هو، في الأساس، السبب الذي جعل رواية «الملكة مارغو» لألكسندر دوما غير قادرة على أن تعتبر من أعماله الأساسية. أما أهمية الفيلم فكمنت في أن باتريس شيرو، المخرج، والكتاب الذي اشتغلوا معه على كتابة سيناريو الفيلم انطلاقاً من رواية دوما، اشتغلوا على الرواية كما كان يجدر بدوما أن يشتغل في كتابته الرواية على الأحداث التاريخية نفسها: أضفوا على العمل الأبعاد السيكولوجية، وعلى الأحداث ترابطاً خلاقاً رسم صور علاقاتها ونظامها السببي. ومن هنا جاء الفيلم، لمرة نادرة في تاريخ السينما التاريخية، أكثر عمقاً من الرواية نفسها.
غير أن هذا يجب ألا يعني أن الرواية في حد ذاتها ليست عملاً متميزاً. وحتى وإن اكتفينا هنا بالنظر إليها بصفتها درساً وعبرة تاريخيين كتبت في ظرف محدد لغرض أيديولوجي محدد. فالرواية بعد كل شيء، إذ تختار الحقبة التاريخية التي تروي أحداثها تبدو هنا ذات دلالة كبيرة. خصوصاً إذا تذكرنا أن دوما كتبها في نحو العام 1845، أي في زمن - سبق أحداث 1848 - كان حافلاً بالمؤامرات والمناورات في أروقة السلطة العليا، وكانت بدأت فيه الفوارق الدينية بالعودة إلى الظهور بعد أن كانت خمدت بعض الشيء إثر قيام الثورة الفرنسية ونزعتها العلمانية التوحيدية. ولئن كانت حبكة «الملكة مارغو» تبدو للوهلة الأولى معقدة بعض الشيء، فإن المهم في الأمر أنها مؤطرة في شكل جيد وذي دلالة، بين ليلة مجزرة القديس بارثولوميو (24 آب/ أغسطس 1572) من ناحية، وليلة موت الملك شارل التاسع من ناحية ثانية. وهذا التمركز التاريخي الذي يأتي هنا لـ»يؤرخ» تماماً لانتقال السلطة في فرنسا من آل فالوا إلى آل بوربون، يحيلنا بالطبع وفي شكل مباشر إلى الحروب الدينية (بين البروتستانت والكاثوليك) التي كانت قائمة في فرنسا في ذلك الحين، على قدم وساق. أما أحداث الرواية - المحققة تاريخياً - فإنها تتمحور حول ثلاثة مواضيع: 1- الصداقة بين شخصين من كبار النبلاء، 2- طموح كاثرين دي مديتشي، 3- حكاية الغرام اللاهب التي تعيشها مارغو، ابنة كاثرين دي مديتشي، والمنتمية إلى آل فالوا.
الصديقان النبيلان المعنيان هنا هما آنيبال دي كوكوناس وهياسنت دي لامول. فالاثنان سجنا داخل الكنيسة وحكم عليهما بالموت، وإذ يحاولان الفرار معاً، يفضّل الأول، إذ يصاب صاحبه بجرح يثنيه عن مواصلة محاولة الفرار، يفضل أن يموت معه بدلاً من أن يهرب وحده. أما كاثرين فإنها، على رغم أن فلكييها قالوا لها في شكل مؤكد إن الحقبة المقبلة ستوصل إلى عرش فرنسا ملكاً من آل بوربون، ما يضع حداً لحكم آل فالوا، فإنها تناضل ضد هذا المصير بشراسة وقد أرعبها أن تتصور ملك نافار هنري الرابع على العرش. أما مارغو (الملكة مارغو) فإنها، إذ تكون زوجة لهنري دي نافار وتشعر بميل سياسي نحوه يجعلها تتمنى له الوصول إلى السلطة، فإنها في الوقت نفسه مغرمة بهياسنت غراماً حاداً عنيفاً. وكان هذا فضّل أن يعدم، خلال محاكمته، على أن يفشي أسرار علاقته بمارغو. ومع هذا حين يعدم لا تتورع مارغو عن الطلب إلى زوجها الملك أن يأتيها برأس عشيقها المقطوعة.
هذه المواضيع الثلاثة هي التي تتكون منها حبكة «الملكة مارغو» والكاتب اكتفى، كما أشرنا، بأن يصفها لنا في برّانيتها، من دون أي تعمّق في سيكولوجية الشخصيات، ومن دون أي تدرّج في وصف أفعالها وردود أفعالها، بحيث يبدو في نهاية الأمر وكأن الأحداث العامة تدور خارج صفحات الرواية تاركة لهذه نتائجها. ومع هذا فإن في هذه الرواية، عدا عن صوابية الأحداث التاريخية، جانباً مهماً، هو قدرتها على التعبير عن أجواء باريس وحياة القصور وحياة الشعب في تلك الحقبة المبكرة من التاريخ الفرنسي (القرن السادس عشر). ولعل هذا كان واحداً من العناصر الأساسية التي استهوت دائماً قراء هذه الرواية.
ومهما يكن من الأمر هنا، لا بد من أن نشير إلى أن ألكسندر دوما عرف دائماً كيف يصف أجواء رواياته ويملأها بالحيوية، هو الذي صار هذا الوصف لديه حرفة أساسية، تشهد على هذا رواياته المهمة وكتب رحلاته الكثيرة، وكذلك مسرحياته التاريخية والمعاصرة. ونحن نعرف أن ألكسندر دوما الأب (1803 - 1870) خاض كل هذه الأنواع وكتب طوال حياته، منفرداً أو مع معاونين، مبتكراً أو مقتبساً من كتاب آخرين (من بينهم شكسبير) عشرات الكتب، الروائية والوصفية، التي جعلته يعتبر على الدوام واحداً من أكثر الكتاب الأوروبيين والفرنسيين شعبية وحظوة، وليس لدى قراء الفرنسية وحدهم.