«عالم شجاع جديد» لآلدوس هاكسلي: كلفة السعادة الباهظة
في عام 1946، كانت الحرب العالمية الثانية انتهت. وكان مليون من نسخ الأصل الإنكليزي لرواية آلدوس هاكسلي «عالم شجاع جديد»، قرئ على نطاق واسع، وحان الوقت لإصدار طبعات جديدة، ولكن هذه المرة مع مقدمة يضعها الكاتب وتأخذ في الاعتبار ما طرأ على العالم من أحداث خطيرة، منذ صدور الرواية للمرة الأولى في عام 1932.
كتب هاكسلي تلك المقدمة التي كان من الواضح أن من شأنه فيها، أن يحصي الكثير من الأمور التي حدثت وكانت روايته تنبأت بها أو توقعتها. كان يمكنه أن يشعر بالفخر لأن أموراً كثيرة وردت في روايته، وكانت من قبيل التخريف أول الأمر، سرعان ما تبدّت حقيقية، أو في طريقها إلى أن تتحقق، وليس على الصعد العلمية والتقنية فقط، بل على الصعد السياسية والأخلاقية أيضاً. لكن هاكسلي ترك كل هذا جانباً، واكتفى بأن يركز في مقدمته الجديدة على أنه لا يطالب من أجل التصدي لكل الشرور والمساوئ التي تهيمن على «عالم شجاع جديد» إلا «بأن يسعى الإنسان إلى الوصول إلى الحرية وغزوها، وسط مناخ رواقي من اللاعنف»، إضافة إلى «نزع السمة المركزية عن العلوم التطبيقية واستخدامها، ليس كغاية يصبح الناس وسائل لتحقيقها، بل كوسيلة تمكّن البشرية من خلق أفراد أحرار». والحقيقة أن العالم المرعب الذي تحدث عنه لآلدوس هاكسلي في «عالم شجاع جديد» كما ظهرت منذ الصياغة الأولى للرواية، ما كان من شأنه إلا أن يرعب القراء في شكل عام، خصوصاً أن الكاتب، إذ صوّر عالماً مستقبلياً بعيداً جداً من زماننا، بدا كأنه يصف عالم الغد. من هنا، كان من الواضح أنه لا يمكنه وصف الترياق الشافي، طالما أن مجيء الحرب العالمية الثانية وأهوالها، ناهيك باستخدام القنبلة الذرية للقتل الجماعي، للمرة الأولى في تاريخ البشرية، كل هذا أتى ليقول إن الرواية «آنية» في شكل كبير، والأهوال التي تتحدث عنها فصولها، «حتمية» و «مباشرة».
ومن الطبيعي القول هنا إن آلدوس هاكسلي كان يعرف هذا كله حين كتب روايته. أما أن يكون قد فضّل أن يضع أحداثها وأجواءها في ذلك المستقبل البعيد (حوالى عام 2500) فإن هذا لم يكن سوى تورية شاءها لغة أدبية لعمل، سيبدو لاحقاً، سياسياً أولاً وأخيراً. والحال أن «عالم شجاع جديد» إنما كتبت على ضوء أحداث الحرب العالمية الأولى التي كانت بريطانيا العظمى (بلد آلدوس هاكسلي) خرجت منها محطمة فاقدة جزءاً كبيراً من روحها، وخرج منها الإنسان بعامة، وقد صار رهينة للآلة... وللعلم، في أسوأ تطبيقاته.
في الرواية، لا يقدم لنا التاريخ المستقبلي على أنه عام 2500 على ميلاد السيد المسيح، بل عام 632 على ميلاد السيد فورد. فالسيارة، رمز العصور الحديثة وميكانيكيتها، صارت هي سيد الكون الجديد، في عالم شمولي قاس يقسم فيه الأطفال منذ ولادتهم، إلى طبقات (الطبقة «ألفا»، و «بيتا»، فـ «غاما»، ثم «دلتا»... إلخ. وفق تراتبية صارمة) ويبدأون بتلقي التربية والتعليم، والعيش أيضاً، بناء على ذلك التقسيم الطبقي. إنها برمجة شاملة تضبط المجتمع ولا تغيير فيها، من الولادة (في الأنابيب) حتى الموت (الذي لم يعد قدراً إنسانياً طبيعياً، بل صار اختياراً جماعياً، بالتالي التزاماً «فردياً» يخضع له صاحب العلاقة). إننا هنا، إذاً، في عالم شجاع جديد... عالم السعادة والانضباط، في دولة شعارها المثلث: «شراكة، هوية، استقرار» يسيطر عليها الزعيم الهادئ مصطفى مينييه وشعاره: «السعادة للجميع». فما هي هذه السعادة؟ إنها الرضى بالواقع: كل طبقة تقبل بما قسم لها وتحس بالنفور مما لدى الطبقات الأخرى. لا طموح هنا. لا فردية. لا صراع. لا حسد. لا بغض. ولكن لا حب أيضاً. فقط هناك الأخلاق الجنسية التي تطورت كثيراً، حيث كل جسد مفرد يكون بالضرورة ملكاً للجميع. واللهو للجميع. والطعام للجميع. والكل - داخل كل طبقة - إخوة. أما الطبقات نفسها فليست تعبيراً عن تفاوت اجتماعي، بل هي «في أسوأ تعبيراتها» انعكاس لتفاوت في الوظيفة الاجتماعية. فماذا عن العائلة؟ لا وجود لها طالما ليس ثمة وجود للأب والأم. الهيمنة هنا للسيد الكبير، محب الجميع، وكذلك للعلم الذي لا يتوقف عن ابتكار «أعظم» الاختراعات من أجل راحة الجميع. وكيف لا يرتاح الناس هنا والمثل، عندهم، يقول «إن تكرار أمر واحد 72 ألف مرة يحوّله إلى حقيقة مطلقة»؟
حسناً، كل هذا يبدو منطقياً ومريحاً في القسم الأول من الرواية. ومع هذا كان لا بد ذات لحظة من أن يطلع سؤال محدّد: ما الذي يجعل برنارد ماركس أحد أبناء طبقة ألفا +، يبدأ بكراهية أبناء طبقته؟ ربما السبب قطرات من الكحول الخطأ دخلت أصلاً في تركيبته العلمية. هكذا، يبدأ ماركس هذا بتلمس مشاعر جديدة: إنه يريد الآن، وخلافاً للسائد، أن ينفرد بسيدة، مكتفياً بالتحدث إليها. إنه يريد أن يكون حراً. يريد أن يتأمل القمر. يريد أن يكون سعيداً من دون أن يجرع المادة التي تؤهله لذلك. إنه، في اختصار، يركض وراء فرديته: وها هو صار، في نظر المجتمع، فرداً. إذاً؟ إذاً ماذا... لن يكون له مكان هنا: سينفى إلى محمية في نيومكسيكو حيث يعيش «البدائيون». ومن هناك يعود مع جون لو سوفاج - حنا «المتوحش»، الذي يقرأ شكسبير ويعيش مشاعر غير مضبوطة، وهو بالتالي يبدو مخلوقاً غريباً لأهل ذلك المجتمع، يتفرجون عليه أول الأمر كبدعة. وهنا عند هذه النقطة من الأحداث تتحول الرواية من عالم الخيال العلمي المستقبلي، إلى عالم رواية اليوتوبيا، المستندة إلى أفكار عصر التنوير السائدة في القرن الثامن عشر. إن سوفاج (المتوحش) هو رجل من زماننا الذي نعيش فيه. وهو لا يحب شيئاً من الاختراعات التي تهيمن على مدينة السعادة، مثله في هذا مثل برنارد ماركس. واختراعات مدينة السعادة هذه كثيرة ترجح كفة الهندسة الجينية والاستنساخ والإنسان الآلي والكومبيوتر وكل تلك الأدوات التي تخلق الشعور بالسعادة لدى «الأفراد». كل هذه الأشياء لم تخلق سعادة برنارد، أما جون لو سوفاج فإنه يرتعب أمامها، إذ يؤتى به من ريفه البعيد إلى المدينة المثالية الجديدة. هكذا، ينتهي الاثنان إلى الدمار... لكن المهم ليس هنا... المهم هو العالم الذي صوره هاكسلي. إذ، إذا كان هذا الأخير موضعه أكثر من نصف ألفية من السنين بعد زماننا الذي نعيش فيه، علينا أن نتنبه إلى أننا دخلنا - فعلاً - في تفاصيله، بعد ربع قرن من موت هاكسلي.
وآلدوس هاكسلي الذي تعتبر رواية «عالم شجاع جديد» أشهر أعماله على الإطلاق، بل ربما أيضاً أشهر رواية خيال - علمي - سياسي - أخلاقي، خلال النصف الأول من القرن العشرين، ينتمي أصلاً إلى أسرة عرفت الكثير من كبار علماء النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فجدّه هو عالم الطبيعيات توماس هاكسلي، وأبوه الفيلسوف ليونارد هاكسلي، وأخوه هو عالم البيولوجيا الحائز جائزة نوبل جوليان هاكسلي. وقد ولد آلدوس عام 1894. ودرس في إيتون ليختار سلوك درب الأدب منذ صباه الباكر. هكذا، راح يكتب الشعر والمسرح والنقد الأدبي، كما كتب في الفلسفة وتاريخ الأديان والتصوف وفي أدب الرحلات... ويمكننا أن نلمح آثار هذا التنوع في كتاباته واهتماماته في هذه الرواية الفذة التي كتبها في لحظة سوداوية وتشاؤم ليصور فيها عالماً شمولياً فقد القيم والأحاسيس. ولنذكر هنا أن آلدوس هاكسلي، بعد صدور روايته بسنين قليلة، لاحظ أن العالم الذي يصفه ويجعله بعيداً من المستقبل «قد لا يمر قرن من الزمن، من الآن، إلا ونجد أنفسنا في خضمه». وقد تحقق هذا وازدادت شعبية هاكسلي، خصوصاً بعد موته عام 1963، إنما من دون أن تستفيد من تلك الشهرة أعمال أخرى كبيرة له مثل «شباب» (1939) و «أزمان مستقبلية» (1949) خصوصاً ذلك النص الذي أصدره عام 1958 في عنوان «عودة إلى عالم شجاع جديد».