«حكايات» هوفمان: عندما يكون الحلم أبقى من الحياة نفسها

«حكايات» هوفمان: عندما يكون الحلم أبقى من الحياة نفسها

تعتبر «حكايات هوفمان» بالنسبة الى هواة الموسيقى الأوبرالية ولا سيما الهزلية منها، أوبرا وضعها اوفنباخ في منتصف القرن التاسع عشر، وقدّمت في شكلها النهائي بعد موت هذا الموسيقي، في العام 1881، بعدما كانت قدمت في شكل أول قبل ذلك بثلاثين عاماً.

غير ان العنوان نفسه، يحيل بالنسبة الى هواة الأدب الغرائبي، والأدب القصصي بشكل عام، الى ما ليس له علاقة بأوفنباخ: يحيل الى الحكايات الأساسية التي كتبها في بدايات القرن التاسع عشر، واحد من أغرب أهل الأدب وأكثرهم خصوبة وتأثيراً في كتاب سلكوا مثله درب الأدب الغرائبي، الذي كان هو أحد مؤسّسيه. وهذا الكاتب هو آرنست تيودور اماديوس هوفمان، الذي عرفه تاريخ الأدب باسمه الأخير هوفمان، وعرف له عشرات الحكايات والقصص التي تبدو في شكلها الخارجي حكايات اطفال، غير ان دراسة متمعّنة لها تبديها اعمالاً ناضجة تبحث عن اسئلة عميقة تتعلق بالإنسان وحياته، لا سيما موضع الحلم والإبداع في هذه الحياة. فهوفمان الذي عاش حياته القصيرة (46 سنة) مرعوباً من ان يحدث له يوماً ان يفقد هويته - التي قال انه على اي حال لم يعرف ابداً جوهرها الحقيقي، بل عرفها دائماً عبر ازدواج في الشخصية اقترب من حدود الشيزوفرينيا - هوفمان هذا، عبّر في القسم الأعظم من أدبه عن هذه الهواجس، بحيث بات من الصعب على الدارسين الذين اهتموا به، أن يعرفوا أين يقف الحلم وأين يختفي الواقع في العلاقة بين حياة هوفمان وأدبه. وبهذا جعل البعض هوفمان في زمنه واحداً من الشخصيات الإشكالية الحقيقية في عالم الواقع - معبراً عنه في الأدب - وجعلوه سلفاً لكبار الكتاب والفنانين الانفصاميين. من هنا لم يكن غريباً ان يعمد كبار الباحثين في التحليل النفسي الى الانكباب على ظاهرة هوفمان وكتاباته - التي رآها بعض السورياليين ارهاصاً بالكتابة «الجوّانية» والأوتوماتيكية احياناً -. وهكذا ولدت في تاريخ الأدب اسطورة هوفمان، التي غذّاها بعد موت الكاتب، طمع صديقه وناشره كونتز، وغيرة زميله الإنكليزي والتر سكوت، الأول في محاولة منه لتعزيز مبيعات ما يطبعه من كتب هوفمان، والثاني في محاولة منه لتشويه سمعة الكاتب ووسمه بالجنون، ما يفقد - في رأيه - كتاباته قيمتها. غير ان الذي حدث كان عكس ذلك تماماً، بالنسبة الى رغبة سكوت على الأقل، إذ ما ان بدأ ادب هوفمان ينتشر، حتى كان الزمن قد بات زمن ربط الكتّاب بذاتيّتهم، ودراسة حياتهم في ضوء أدبهم، ما اعطى أدب هوفمان زخماً كبيراً. ولئن كان قد كتب على شاهدة قبر هذا الأخير: «هنا يرقد انسان استثنائي كقاض وشاعر وموسيقي ورسام»... فإن احداً لم ير أية مبالغة في هذا، لأن الجميع كان يعرف سلفاً ان هوفمان هو ذلك كله... وكان موهوباً في كل هذه المجالات، وإن قال دارسوه إن القاضي فيه - بعقلانيته الصارمة - كان يحاول دائماً ان يخنق الفنان. ومهما يكن، فإن هذا الازدواج الذي ارتبط دائماً بعنف داخلي لدى هوفمان، كان هو في خلفية تصرفاته وكتاباته، ونهايته المملوءة بالهواجس والجنون.

عاش هوفمان هذه الازدواجية كتمزق وألم دائمين، وهو عبّر عنها في معظم اعماله، ما اضفى السمة الغرائبية على تلك الأعمال. لكن الحقيقة تقول لنا اننا إذا تمعّنا في ما وراء تلك السمة، سنجد ان ادب هوفمان لم يكن في النهاية سوى تأمّل خلاق حول الإنسان ووضعه في هذا العالم، عبر لعبة مرايا، قلّ نظيرها في تاريخ الأدب كله. ويمكننا للتدليل على هذا، ان نتفحص، مثلاً، حكاية «الأميرة برامبيلا» وهي احدى اشهر حكايات هوفمان وأكثرها غرابة. ففي هذه الحكاية لدينا احلام تختبئ وراء احلام اخرى أو داخلها، بحيث تبدو الأحلام منعكسة في بعضها بعضاً حيث إن كل شخصية من شخصيات هذه الحكاية، لا تعيش إلا بمقدار ما تحلم بها شخصية اخرى. وتقدم لنا هذه الحكاية، في السياق نفسه، شخصيات تعيش ازدواجية متواصلة، وليس فقط عبر حلم هذه بتلك، بل أيضاً عبر لعبة استعارة للملابس والسمات، تجعل كل شخصية تدرك كنه ذاتها من خلال نظرة آخر، تلقيها على تلك الذات، وقد تقمصت ذلك الآخر. وفي النهاية، ما يتبقى لدينا هنا، انما هو نظرة جديدة تلقيها كل واحدة من الشخصيات على ذاتها وعلى العالم المحيط بها.

بالنسبة الى هوفمان كان ذلك هو جوهر الفن ووظيفته: أن يكشف لنا عبر تقمص الآخر، ذاتنا وحقيقتنا، اللتين نعجز في العادة عن إدراكهما. والحال ان تلك كانت وظيفة جديدة - ومستهجنة احياناً - للفن في الزمن الذي عاش فيه هوفمان. ومن هنا كانت ردود الفعل المعادية والمستغربة التي واجهت هذا الكاتب معتبرة كتاباته نوعاً من الهلوسة. ومع هذا، لم يكونوا قلة اولئك الباحثون الذين عرفوا كيف يربطون ادبه بفن الإسباني غويا، ولاحقاً بإبداعات الأميركي ادغار آلان بو، ليعطوا حكايات هوفمان، المكتوبة ظاهرياً للأطفال والمملوءة بالحيوانات المؤنسنة التي تعي تاريخها وتعيشه، بعداً جاداً نظر إليه بعين البحث والتحليل.

ومن المؤكد ان ما توقف عنده الباحثون في شكل اكثر جدية، كان وصول هوفمان في ازدواجيته (التي نذكر بأن غايتها كانت تجريد الذات وتحويلها الى آخر، من اجل التمعن في الذات نفسها)، الى حد ابتكاره قريناً له، شخصية تحمل سمات الإنسان «الآخر» الذي كان هوفمان يود ان يكونه. وهذا القرين هو يوهانس كريزلر، القسيس الموسيقي العبقري الذي سيجعل منه الحب مجنوناً. ومن الواضح ان هوفمان انما جعل من وجود هذه الشخصية نوعاً من تعويذة تقيه مصيراً لم يكن ليريده لنفسه. وهكذا نجده يحمل كريزلر أحداثاً وصفات، كان هو نفسه لا يعيشها إلا كأحداث تافهة مرعبة له.

وشخصية كريزلر هذه تطالعنا في واحد من اشهر كتب هوفمان «آراء القط مر». فهذا القط الذي تحمل الحكاية اسمه يحدث له ان يسرق من صاحبه كتاباً انتزع صفحاته. وبما ان الكتاب في الأصل يحمل سيرة حياة كريزلر، فسيحدث إثر ذلك لهذه السيرة أن تظهر بشكل فوضوي يمازج بين نظرة القط الى الأمر وبين الترتيب العشوائي لما تبقّى من صفحات. وكان من الواضح ان هوفمان يريد عبر هذا أن يقول انه، في الحياة التي يعيشها المرء يجب ألا تحتسب سوى تلك المنتمية الى الحلم، وإلى المتخيل. ومن هنا، فإن الفنان الحقيقي المبدع، الذي هو الإنسان الحقيقي بالنسبة الى هوفمان، لا وجود له إلا في الوجود الوهمي الذي يخلقه ابداعه.

والحقيقة ان امرءاً مثل هوفمان، ما كان في إمكانه ان يصل الى نتيجة غير هذه. ذلك انه ولد ابن طلاق في العام 1776 في مدينة كونيغسبرغ، الحائرة بين المانيا وبولندا، وبين روسيا وأوروبا، المدينة البورجوازية الهادئة، التي لا تبعث في النفس سوى الملل. ولقد اعطاه ذاك الوضع (الطلاق والمدينة) روحاً شديدة الحساسية، غير قادرة منذ الطفولة على اي انتماء او تأقلم، ما جعله يعيش معاناة دائمة، يصح معها ان نتساءل: كيف اذاً قيض له ان يختار القضاء مهنة له، هو الذي منذ صباه أولع بالموسيقى والرسم والكتابة، كما كان يصر في كل لحظة على ان يعيش احلامه. والحال اننا، في هذه الازدواجية القصوى، يمكننا ان نعثر على جذور شخصية هوفمان وجذور أدبه القلق والإنساني العميق. ونضيف الى هذا ان هوفمان عاش منذ مراهقته خيبة إثر خيبة، متنقلاً من مكان الى آخر، هارباً من اي شيء باحثاً عن اي شيء. وهو لم يلبث ان عبّر عن ذلك كله، عبر التجائه الى الهروب الأكثر ضمانة: الحلم والإبداع، بوصفهما صنوين يتكاملان ومكان لجوء بعيداً من الصور الكابوسية للحروب النابوليونية التي عاش اهوالها. وهكذا راح يكتب وينشر ويثير عواصف من النقد والسجال. وكان من الطبيعي لشخص قلق حالم مثل هوفمان ان يموت باكراً... لكنه لم يمت (العام 1822، في برلين التي عاش فيها سنواته الأخيرة) إلا بعد ان نشر عشرات الحكايات والكتب التي خلّدته.

 

المصدر: الحياة

آخر تعديل على الجمعة, 04 تموز/يوليو 2014 00:02