إعادة كتابة التاريخ... بين الجهل والتوظيف السياسي
أثار تعديل منهاج مادة التاريخ لتلاميذ التعليم الأساسي في سورية موجةً من ردود الأفعال المتباينة، ولا سيما فيما يتعلق بالتغييرات التي طالت قضايا تاريخية حساسة، مثل وسم شهداء السادس من أيار في دمشق وبيروت بأنهم «عملاء»، ووصف ما عُرف بالثورة العربية الكبرى بأنها مجرد «تمرد»
لم تقتصر هذه التوصيفات على تغيير بعض المصطلحات، بل عكست في العمق قراءة جديدة لتاريخ المنطقة، تقلب المفاهيم والبديهيات رأساً على عقب، وتمزج بين الجهل بالتاريخ وتوظيفه لخدمة مواقف سياسية آنية.
ظاهرة في سياقها التاريخي
إن توصيف المنهاج المعدل للثورة العربية الكبرى عام 1916 بأنها «تمرد» أو «صناعة إنكليزية» يتجاهل الجوهر الحقيقي لظاهرةٍ انبثقت من رحم واقعٍ مأزوم عاشته الإمبراطورية العثمانية في سنواتها الأخيرة.
فالثورة لم تكن اختراعاً أجنبياً، بل استجابةً طبيعيةً لتراكم طويل من الاستبداد والتهميش والقمع، وللفجوة العميقة بين مركز السلطنة وأطرافها التي عانت من التمييز والإقصاء.
في مطلع القرن العشرين كانت الإمبراطورية العثمانية قد دخلت طور الشيخوخة السياسية والإدارية؛ تهاوت أركانها تحت وطأة الانقسامات القومية والطائفية وتداعيات الحرب العالمية الأولى. ومع عجزها عن مواكبة التحولات العالمية في الإدارة والاقتصاد والعلم، بدا انهيارها مسألة وقت. وفي مثل هذا المناخ المضطرب كان طبيعياً أن تبحث الشعوب عن هويتها وعن حقها في تقرير مصيرها.
من رحم هذا الواقع تولد الوعي القومي والوطني، لا من غرف المخابرات البريطانية أو الفرنسية، بل من صميم معاناة الشعوب التي سئمت الاستبداد. ولم يكن جمال باشا السفاح، أحد أبرز وجوه الحكم العثماني في المشرق، سوى التعبير الأوضح عن ذلك الاستبداد حين علّق مشانق الأحرار في بيروت ودمشق، لتتحول دماؤهم إلى الشرارة الأولى في الوعي الجمعي العربي.
الدور البريطاني
التاريخ لا يُصنع في فراغ. فالقوى الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا، كانت تتابع عن كثب ما يجري في الشرق من خلال شبكات الجواسيس والمستشرقين والزعامات المحلية.
أدركت بريطانيا باكراً أن الإمبراطورية العثمانية تتآكل من الداخل، وأن الشعوب الواقعة تحت سلطانها ستنتفض عاجلاً أم آجلاً. فاختارت الاستثمار في هذه الظاهرة كعادتها، تماماً كما وصف المثل الإيرلندي:( إذا رأيت زوجين يتشاجران في الصباح، فاعلم أن إنكليزيا كان ضيفهما الليلة الماضية)
لقد كان الدور البريطاني في الثورة العربية الكبرى دور المستثمر الذكي الذي يركب الموجة الصاعدة ويحاول توجيهها لمصلحته. فالظاهرة ذاتها كانت نابعة من حاجة حقيقية إلى التحرر، لكن القوى الخارجية كانت تحاول تطويعها لخدمة مشاريعها. وحين اندفع العرب وشعوب المنطقة نحو الاستقلال، كانت بريطانيا وفرنسا تضعان اللمسات الأخيرة على اتفاقية سايكس– بيكو التي قسمت المشرق إلى مناطق نفوذ.
وهكذا ما إن انتهت الحرب العالمية الأولى حتى وجدت هذه الشعوب نفسها أمام واقع جديد، رحل الاستبداد العثماني ليحلّ مكانه استعمار أوروبي بثوبٍ حديث وأدواتٍ أكثر دهاءً. فرضت بريطانيا زعامات ونخباً تقليدية تدين لها بالولاء، فتم تفريغ الزخم التحرري من مضمونه الحقيقي ولو مؤقتاً. ومن هنا فإن وصم رجالات الثورة العربية الكبرى «بالعمالة للإنكليز» يمثل تبسيطاً مجحفاً وتزويراً للتاريخ.
هؤلاء الرجال، رغم تباين رؤاهم، كانوا أبناء عصرهم، تحركهم رغبة صادقة في الخلاص من الاستبداد، وإن لم يدركوا حينها حجم التعقيد الدولي الذي كانت تديره بريطانيا من وراء الكواليس.
نحو وعيٍ تاريخي موضوعي
الوعي التاريخي الموضوعي يقتضي قراءة تلك المرحلة بعينٍ نقدية منفتحة لا بعواطف متشنجة. فالثورات ليست أحداثاً نقية أو معزولة، بل صيرورات اجتماعية تتقاطع فيها المصالح الداخلية والخارجية.
حتى لو لم تحقق الثورات أهدافها كاملة، فإنها شكلت لحظة وعيٍ تحرري أصيل، ومقدمةً لتأسيس فكرة الدولة القومية المستقلة. إن الخلط بين الظاهرة الأصلية واستثمارها اللاحق هو ما يجعل بعض القراءات الحديثة مجحفة بحق رجالات الاستقلال الذين دفعوا حياتهم ثمناً لحلم الحرية.
امتداد للخطاب الاستشراقي
إن محاولات إعادة كتابة التاريخ - كما يفعل جهابذة تعديل المناهج - ليست سوى امتدادٍ حديث للنزعة الاستشراقية القديمة التي لا ترى في شعوب المنطقة سوى أدواتٍ تدور في فلك القوى الكبرى. هذا النمط من التفكير يلغي الإرادة المحلية ويعيد إنتاج خطاب الوصاية والاستعلاء.
كما تكشف المؤسسات التي تُدار بالولاءات السياسية، لا بالكفاءة الوطنية، عن عجزها عن إدارة الذاكرة الجماعية بروحٍ جامعة، فتعمق الانقسام بدل تجاوزه.
نحو رؤية معاصرة
تاريخ المنطقة يثبت أن شعوبها — عرباً وتركاً وكرداً وفرساً — تشكل فضاءً حضارياً واحداً، يجمعها التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك.
ويمكن لهذا الفضاء أن يتحول إلى سوقٍ اقتصاديةٍ وثقافيةٍ متكاملة، تقوم على التعاون والتفاعل الإيجابي بعيداً عن التبعية من جهة، وعن عقلية الإقصاء من جهة أخرى. فالمصالح المشتركة لا تُبنى على العزلة، بل على الشراكة والتوازن، والمنطقة قادرة — إذا تحررت من الاستبداد الداخلي والهيمنة الخارجية معاً — على المساهمة في بناء عالمٍ أكثر عدلاً وإنسانية.
الدرس الأخير
تكفي نظرةٌ إلى قائمة شهداء السادس من أيار لتكشف بؤس الخطاب الطائفي الراهن؛ فقد ضمت القائمة المسلم والمسيحي والدرزي، في تجسيدٍ بليغٍ لفكرة الوطن المشترك والانتماء العابر للطوائف.
هؤلاء الرجال الذين أسسوا لبدايات الوعي القومي والسياسي تجاوزوا منذ أكثر من قرنٍ كل أشكال الدجل الطائفي الذي يمزق أوطاننا اليوم، ويطيح بالسردية المقيتة التي لا ترى في تاريخنا سوى طوائف وجماعات متحاربة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1249