التحديات البيئية والاجتماعية في تجارب الزراعة الجماعية الاشتراكية:  قراءة في تاريخي الاتحاد السوفييتي والمجر

التحديات البيئية والاجتماعية في تجارب الزراعة الجماعية الاشتراكية: قراءة في تاريخي الاتحاد السوفييتي والمجر

شكلت تجارب الزراعة الجماعية في البلدان الاشتراكية محطة تاريخية بالغة الأهمية في سياق البحث عن بدائل لنمط الإنتاج الرأسمالي، وقد مثلت هذه التجارب محاولات جريئة لإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والأرض وفق رؤية تجميعية تهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. لكن هذه المسيرة الطويلة لم تكن خالية من التعقيدات والتحديات التي تجسدت فيما يمكن تسميته بالتناقضات الاقتصادية الاجتماعية التي ظهرت في تفاعل النظم الزراعية الجديدة مع البيئة الطبيعية بمكوناتها المعقدة وتنوعها الإقليمي.

بتصرف عن مجلة مونثلي ريفيو

السياق التاريخي والنظري المتعمق

ينطلق هذا التحليل من رؤية المفكر والتر رودني الذي حذّر بدقة من الخلط بين الكوميونية ما قبل الاستعمارية والاشتراكية العلمية، مؤكداً أن الممارسات الكوميونية التقليدية تظل محدودة بالنطاق الجغرافي والعشائري الضيق، وغير قادرة على تلبية احتياجات المواطنين جميعهم في ظل محدودية الإنتاج. كما أشار رودني إلى أن بناء الاشتراكية يتطلب التحرر من قوى الطبيعة الأساسية كالجفاف والفيضانات والأمراض، مما يستلزم تطوير قدرات تكنولوجية وتنظيمية متقدمة.

هذه الرؤية تنبّه إلى حقيقة أن

الكوميونية التاريخي لم يكن خالياً من علاقات القوة غير المتكافئة، ففي العديد من المجتمعات، كانت الأراضي الكوميونية تخضع لسيطرة الذكور وكبار السن، مما يحد من إمكانياتها في تحقيق المساواة الاجتماعية الحقيقية. كما أن اندماج هذه الأشكال التقليدية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي قد حولها في كثير من الأحيان إلى أدلة لتعميق التبعية واستمرار أشكال الاستغلال.

طبيعة المزارع الجماعية في التجربتين وتحولاتها

شكلت عمليات التنظيم في مزارع جماعية في الاتحاد السوفييتي والمجر نقلة نوعية في حياة الفلاحين، خاصة الفقراء والذين لا يملكون أراضي. فقد تم إلغاء قرون من القنانة الزراعية، وأظهرت هذه التجارب إمكانية إزالة سمة السلعة عن الأرض وتوجيه الإنتاج الزراعي أساساً لإطعام الناس. لكن الدراسة المتأنية لتاريخ هذه المزارع تكشف أنها لم تكن ديمقراطية في كثير من الأحيان، وقادها تكنوقراط في الغالب، كما أنها تأسست في كثير من الحالات عبر مزيج من الإغراءات الاقتصادية والإكراه.

في المجر بشكل خاص، كانت عملية التنظيم في مزارع جماعية صراعاً طويلاً امتد من 1948 إلى 1961، واجهت مقاومة فلاحية واضحة، خاصة في أحداث 1956 التي قمعت بالتدخل السوفييتي. لكن المرحلة اللاحقة شهدت تحولاً في الاستراتيجية اعتمد على الحوافز الاقتصادية والعقوبات غير المباشرة، مما أدى إلى انتشار المزارع الجماعية في جميع أنحاء البلاد بحلول أواخر الستينيات.

التحديات البيئية والتنوع التربي المعقد

واجهت المزارع الجماعية تحديات بيئية جسيمة، خاصة في مجال الحفاظ على التربة. فالتربة ليست كياناً موحّداً، بل هناك 32 مجموعة رئيسية و120 مجموعة فرعية من الترب في العالم، لكل منها خصائصها المميزة وحساسيتها المختلفة للتأثيرات البشرية. فالتقنيات الزراعية الموحدة قد تكون كارثية لبعض أنواع التربة بينما لا تؤثر إطلاقاً على أنواع أخرى.

في الاتحاد السوفييتي، واجهت المزارع الجماعية تحديات خاصة بسبب التنوع الهائل في الظروف المناخية والتربة، من التربة المتجمدة في المناطق القطبية إلى الترب الغنية في أوكرانيا. وقد أدت السياسات المختلفة عبر العقود إلى نتائج متباينة، ففي عهد خروتشوف، أدت حملة الأراضي البكر في كازاخستان وسيبيريا إلى تدهور بيئي كبير، بينما شهد عهد بريجنيف تحسناً في سياسات الحفاظ على التربة.

تجربة الاتحاد السوفييتي... إنجازات وإخفاقات

امتلك الاتحاد السوفييتي تنوعاً في أنماط التربة هو الأكبر على مستوى العالم، من تربة التايجا المتجمدة إلى الترب الغنية بالملح في المناطق الجافة. وقد شملت سياسات الحفاظ على التربة عمليات إعادة تشجير واسعة وإنشاء أحزمة غابية واقية، لكن الاعتماد المتزايد على الميكنة والأسمدة الكيميائية منذ الستينيات أدى إلى تفاقم التدهور البيئي.

الدراسات تشير إلى أن نحو ربع الأراضي المزروعة في الاتحاد السوفييتي كانت تعاني من التآكل المائي والهوائي بنهاية الثمانينيات، مع وجود مشكلات إضافية في التملح في مناطق آسيا الوسطى. ومع ذلك، فإن البيانات المقارنة تظهر أن التأثير البيئي العام كان أقل نسبياً من نظيره في الدول الرأسمالية المتقدمة.

تجربة المجر الاشتراكية... خصوصية المسار

تميزت المجر بتربة خصبة بشكل استثنائي، خاصة تربة تشيرنوزيم الغنية، مما جعلها من أهم الدول الزراعية في أوروبا الوسطى. ومع تطبيق الآلية الاقتصادية الجديدة عام 1968، زاد الاعتماد على الأساليب الزراعية المكثفة، مما أدى إلى تفاقم مشكلات تآكل التربة وتحمضها.

الميزة التي تمتعت بها المجر كانت نظام المراقبة الشامل للتربة، والذي كان واحداً من الأكثر تطوراً في العالم، مما ساعد في احتواء العديد من هذه المشكلات عبر حملات التكليس وتطوير تقنيات الحفاظ على التربة. ورغم أن نحو 29% من الأراضي كانت مصنفة كمتدهورة بشدة في نهاية الثمانينيات، فإن هذه النسبة تعتبر مبالغاً فيها بعض الشيء.

التحليل والمقارنة والدروس المستفادة

تكشف الدراستان أن المزارع الجماعية تطورت في سياقات تاريخية معقدة، خرجت من تشكيلات إمبريالية ومجتمعات دمرتها الحروب. لقد حققت تقدماً ملموساً في تحسين المستوى المعيشي مع الحفاظ على تأثير بيئي أقل نسبياً من الدول الرأسمالية، لكنها واجهت تناقضاً اقتصادياً اجتماعياً خاصاً تمثل في التوفيق بين التنسيق الناجح للإنتاج الزراعي وبين التحديات البيئية التي ورثتها عن المراحل السابقة.

من المهم فهم أن هذه التجارب كانت تواجه باستمرار تهديدات خارجية وداخلية، مما استلزم تحويل موارد كبيرة نحو الدفاع العسكري والأمن الداخلي على حساب البرامج البيئية. كما أن التوجه التدريجي نحو الأسواق الرأسمالية العالمية، خاصة لسداد الديون، أدى إلى زيادة الضغوط نحو الإنتاج المكثف المعتمد على الكيماويات والميكنة.

العبرة والمستقبل

تبيّن التجربتان أن بناء الاشتراكية يتضمن تحولات بنّاءة ومدمرة في الوقت نفسه للمجتمع والنظام البيئي. فالتغلب على التناقضات الاقتصادية الاجتماعية يتطلب فهماً متعدد المستويات للعمليات البيوفيزيائية، ولا يمكن تطويره ضمن حدود الكوميونات المنعزلة. كما أن التحول إلى المجتمع الاشتراكي لا يستلزم تطوير طرق العيش الكوميونية فقط، لكن أشكال إنتاج مستدامة بيئياً أيضاً.

تجربة كوبا تقدم نموذجاً ملهماً في هذا المجال، حيث استطاعت وبعد عقود من بناء القدرات الصناعية والعلمية، التحول نحو تقنيات الزراعة البيئية على نطاق واسع في التسعينيات، مما يقدم إمكانية تحقيق التكامل بين الأهداف الاجتماعية والبيئية في إطار اشتراكي.

خاتمة

رغم كل التحديات والتناقضات، تظل تجارب الزراعة الجماعية في البلدان الاشتراكية تمثل إنجازاً تاريخياً مهمّاً، حيث أظهرت إمكانية بناء أنظمة زراعية بديلة عن النموذج الرأسمالي. لقد حققت هذه التجارب تحسيناً ملموساً في مستويات المعيشة للملايين من الفلاحين والعمال، مع الحفاظ على تأثير بيئي أقل نسبياً من النظم الرأسمالية المماثلة.

التحدي الذي يظل قائماً يتمثل في تطوير نماذج زراعية جماعية قادرة على التوفيق بين الكفاءة الإنتاجية والاستدامة البيئية والعدالة الاجتماعية، في ظل ظروف عالمية معقدة وتحديات بيئية متزايدة. وتظل الدروس المستفادة من هذه التجارب التاريخية ذات قيمة نظرية وعملية عالية لكل من يبحث عن بدائل للنموذج الرأسمالي في مجال الزراعة والعلاقة مع البيئة، مشيرة إلى أن الطريق نحو اشتراكية بيئية حقيقية طويل ومعقد، لكنه ليس مستحيلاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1246