التوالد التكاثري والتناقضي للّغة والشخصية ومتلازمة «الترامبية»

التوالد التكاثري والتناقضي للّغة والشخصية ومتلازمة «الترامبية»

من الضروري جداً تبيان معالم المرحلة الراهنة على مستوى تفاعل البنيتين الفوقية والتحتية. بشكل خاص، يجب تحديد الهُويّة التاريخية الخاصة بهذه المرحلة على مستوى الوعي والفكر والسياسة والحقل النفسي، بما يساعد على تعميم الطفرات التي تبدو غالباً «غريبة» ومتناقضة، وبالتالي توظيفها في الاستنتاج السياسي في مرحلة دقيقة من تاريخ البشرية. إنها مهمّة شاملة وواسعة ولكنها ضرورية.

الواقع الذاهب إلى الفلسفة

في مواد سابقة أشرنا إلى أنّه بسبب وصول التناقضات في الرأسمالية إلى مستوى تدميري من الحدّة ومن ضرورة حلّها بشكل متزامن، فذلك يدفع، من جهة، إلى اندماج مختلف مستويات الواقع (السياسية، الوعي، الاقتصاد، الطبيعة، التكنولوجيا، إلخ.)، نتيجة الحاجة إلى توليف أعلى وجديد لهذه المستويات، ومن جهة أخرى، إلى الكشف عن الجوهر التاريخي والفلسفي للواقع، ليس للعقل الأكاديمي والسياسي «النخبوي» فقط، بل ولأوسع القوى الاجتماعية أيضاً. فمن الناحية المعرفية (وبالضرورة، من الناحية الممارَسيّة)، فإن هذا الاندماج الموضوعي في مستويات الواقع ووصول التناقضات إلى حدها التاريخي يفرض نفسه على عملية انعكاس الواقع وتشكيل الوعي، ويدفع إلى «فلسفة الوعي»، أيْ رَفْع الوعي، المتخصِّص وغير المتخصِّص، إلى مستوى من التفلسف الضروري.

وأشرنا أيضاً إلى أنّ هذا المَلمَح يظهر جليّاً ليس من خلال انتعاش النقاش الفلسفي في مختلف حقول الأكاديميا فقط، وبشكل خاص، تحت تأثير «التكنولوجيا الذكية» التي تعيد طرح أسئلة فلسفية تاريخية؛ كعلاقة الفكر بالواقع، وقضايا الهُويّة، وماهيّة الإنسان، والأخلاق، والانقسام بين الفرد والمجتمع، ولكن أيضاً من خلال اقتحام الفلسفة للممارَسة التشخيصية والعلاجية والتدخُّلية في الطبّ النفسي والاستشارات. فالباحثون في مختلف هذه الميادين يشيرون بصراحة إلى أنَّ وصول التحديات الواقعية على مختلف المستويات البيئية والعقلية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية تفرض على الوعي «الشعبي» الحاجة إلى الفلسفة من أجل توليف التناقضات المطروحة، والفهم الشامل والعام لطبيعة المرحلة. وهذا التفلسف ضروريٌّ من أجل الحفاظ على العلاقة العملية بالواقع من خلال توجيه وتحديد السلوك، كما هو مطلوب على مستوى الحفاظ على العقلانية والسويّة العقلية. هذا التيار يشهد مؤخراً صعوداً وتأطيراً أكبر، بغضّ النظر عن أنَّ أغلب اتجاهاته العلمية والأكاديمية تحمل طابعاً توفيقيّاً وتسوَويّاً للتناقضات، وخصوصاً من خلال تيار صينيٍّ تحت عنوان «التناغم» المستوحى من أحد عناصر الفلسفة «التَّاوية» بالابتعاد عن الصراعات، وتيارات غربية تحت عنوان «الترفُّع عن الصراعات والتنزُّه» من خلال البناء على الفلسفة الرِّواقيّة القائلة بأنَّ الإنسان ومن أجل سعادته يمكن له أنْ يتخلَّى عن مصادر تلك السعادة في الواقع، إلخ.

إنّ هذا الانتعاش للتيارات الفلسفية في الأكاديميا كما على مستوى الوعي العام، الذي يمكن رؤيته في انتشار الصفحات والمقولات الفلسفية على مواقع الدعاية الجماهيرية وتشكيل الوعي، هو مؤشر على أن المرحلة التاريخية تفرض الفلسفة كشكل للوعي عالي التجريد وتعميميّ، بينما كانت في السابق شكلاً للوعي محسوباً على النخب. هذه أساساً كانت نبوءة ماركس حول اتجاه العقل لكي يكون عقلاً كلّياً وشاملاً بالضدّ من التقسيم الشديد للعمل في الرأسمالية.

في أزمة الفلسفة والعلم وتقسيم العمل والمجتمع الطبقي

إنَّ واقع الانقسام الطبقي يفرض أنْ يكون الوعي المهيمن بالضرورة منقسِماً، وهكذا كان تاريخ الفلسفة، منقسماً يأخذ شكل القطبية (مثالية-مادية). وفي مراحل اشتداد التناقض في المجتمع، كانت هذه القطبية تزداد حدّة على شكل مثالية ومادية متطرّفة، وعلى شكل توالد غير نهائي للمذاهب الفلسفية، التي هي أدواتٌ للفكر، التي تحاول عاجزةً القبضَ المعرفيَّ على الواقع والسيطرة عليه. وبالتالي فإنَّ مختلف المذاهب الفلسفية (ما قبل الماركسية) حافظت على هذا الانقسام وشكَّلت عوارضَ للأزمة التاريخية في الفلسفة التي هي في نهاية التحليل أزمةُ المجتمع الطبقي. هذا التوالد في أدوات الفكر ليس محصوراً في الفلسفة بل انتقلَ إلى العلوم على شكل توالدٍ غير نهائي لمنهجيّاتها، كأدواتٍ للعلم في العلاقة مع معطيات الواقع، وخصوصاً في العلوم الإنسانية، وبالتحديد علم النفس نتيجة ارتباطه المباشر والصريح بالإنسان والمعرفة والعقل. فكما أشار عالِم النفس السوفييتي ليف فيغوتسكي بأنّ هذا التوالد والتكاثر (proliferation) لمنهجيات العلوم المهيمنة، وحفاظها على التناقض بين القطبية (مادية-مثالية)، هو تعبير في العلم عن التوالد للمذاهب الفلسفية، وهو في التحليل النهائي دليلٌ على الأزمة المعرفية الناتجة عن الانقسام الطبقي.

التوالد التكاثري في الوعي العام

إنَّ اتجاه الوعي العام الشعبي لكي يكون فلسفيّاً يعيد إنتاج ملامح وعوارض أزمة الفلسفة (والعلم) تاريخياً. وإذا كان هذا التوالد التكاثري والانتقال بين النقائض من خلال الحفاظ عليها يأخذ في الفلسفة شكلَ المذاهب، وفي العلم يأخذُ شكل التوالد التكاثري للمنهجيات، فهو يأخذ في الوعي العام الجماهيري شكل التوالد اللغوي وتوالداً في الشخصية التي هي أدوات الفرد في العلاقة مع الواقع. كون الوعي العام الشعبي في الغالب الأعمّ لا يحدّد علناً وبشكل صريح وفي كل لحظة منهجيّاته العلمية ومذاهبه الفلسفية في العلاقة مع الواقع، بل في كونها تفعل ضمنياً في هذا الوعي الذي يتخذ شكل التفكير الفلسفي على السطح وبالقطعة، فإنَّ الأزمة في القبض على الواقع وتقرير المصير، الناتجة عن الانقسام بين الفرد والمجتمع في النظام السياسي والاجتماعي للرأسمالية في ظل أزمة حادة وخطيرة، تؤدي إلى عوارض توالدية شبيهة بعوارض الأزمة في الفلسفة والعلم. فالتكاثر اللانهائي للغة وفيضها في كل مكان، على الإعلام، ومواقع التواصل، وفي التواصل اليومي، والتوالد التكاثري للشخصيات على مستوى الفرد الواحد وتحولاتها وانتقالها من سلوك إلى آخر في محاولة عاجزة للسيطرة على الواقع، هو تعبير عن عوارض أزمة الانقسام المعرفي التاريخية، وفي الوقت ذاته تعبير عن أزمة الممارسة القادرة على توليف تناقضات الواقع. فأزمة الممارسة هي من أزمة المعرفة وبالعكس. هي أزمة واحدة في طبيعتها الإبستمولوجية/المعرفية.

الترامبية وتكثيف الأزمة

إنّ نموذج الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليس إلَّا تعبيراً مكثَّفاً لما سبقَ من عوارض ومتلازمات، ولما نراه في السلوك العام للقوى الاجتماعية التي تعبّر إلى هذا الحد أو ذاك عن الأزمة في القبض على الواقع. فترامب، يعكس ويكثّف في شخصيته ولغته أزمة القبض على الواقع والعجز عن توليف التناقضات، ويعكس في الوقت ذاته الحاجة الملحّة لهذا التوليف كونها لدى الفئة التاريخية التي يمثلها هي مسألة حياة أو موت. كونها مسألة حياة أو موت ليست خاصة بالأقلية المهيمنة، بل هي عامّة لكلّ البشرية اليوم، ولكنها لدى الفئة التي تحاول الحفاظ على هيمنتها هي أزمة انغلاق أفق تاريخي، لا أزمة قابلة للحل كما هي لدى القوى (شعوباً ودولاً وتكتلات وتنظيمات) التي تحاول تحويل الواقع بما يخدم الغالبية العظمى والجنس البشري ككل. ولهذا فإن ترامب يعكس تناقضاً كبيراً يتمظهر، من جهة، في ازدياد وزن اللغة لديه (العاجزة ضمنياً)، كما هو ازدياد وزن اللغة في مجمل العالم الغربي، ومن جهة أخرى، في تناقض هذه اللغة وفي شخصية (شخصيات) حاملها. مجدداً، إنَّ هذا التوالد التكاثري والتناقض في اللغة والشخصية وإنْ كان يظهر مكثَّفاً لدى الفئة التي تحاول الحفاظ على هيمنتها، نراه أيضاً مسحوباً على كلّ القوى التي تعبّر بهذا الشكل أو ذاك عن أزمة تحويل الواقع؛ من قوى وتنظيمات وأفراد في كل العالم. فكلما كانت الممارسة أقرب إلى التوليف كانت اللّغة والشخصية أقلّ وزناً (ولا نقول أقلّ أهميّةً)، وأقلّ تناقضاً وأقلّ حَمْلاً للتناقض، حيث تكون الممارسة العملية المفتوحة على حلّ التناقضات هي التي تحمل الوزن الأكبر لهذا التناقض، وتكون اللّغة في تلك الحالة أداةً في صالح الممارسة المفتوحة لا المنغلقة على الواقع، بدل أن تكون اللغة حقلاً لهذا الحل.

أمام المشهد الراهن من فيض الكلام وتكاثره وتناقضاته وتناقض شخصية حامليه، من مختلف المواقع، بمعزل عن درجة هذه التناقضات والحدّة التي تظهر فيها لدى مختلف المواقع، فإنها تحتاج إلى تعميمها في إطار الواقع الذاهب في الفلسفة ورهبة الانتقال التاريخي للبشرية بين فَنائها أو دخولها في فصلِ التاريخ الحقيقي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1246