طابور يوسف إدريس وطوابيرنا
إيمان الأحمد إيمان الأحمد

طابور يوسف إدريس وطوابيرنا

«تتشابه الأسواق في الأرياف ولا تكاد تختلف... ويوم السوق هو بلا شك أروع الأيام وأشهرها وهو الزحمة التي تحدث كل حين مرة معلنة وكأنها ساعة بشرية هائلة انقضاء سبعة أيام، وفراغ جيوب وامتلاء جيوب، وقبض أجور واختلاس أجور، وشبع ناس وجوع ناس، وتقيس العمر.»

هكذا يصف يوسف إدريس الناس، في قصته المشهورة «الطابور». قصة قصيرة مدهشة بطلها مجموعة من الفلاحين، «المتوكلين على الله»، يشقون طريقهم في «طابور» ويكسرون الخشبة في سور السوق الذي يحاول مالك الأرض المقام عليها مستميتاً التحكم بهم من خلاله.

يكفي أن تدخل أحد المصارف الحكومية في دمشق في بداية كل شهر، أو أن تقف في دور أمام إحدى كوات الصرافة حتى تسمع وترى بأم عينك «مآسي السوريين» على أصولها. فالراتب الشهري اليتيم والذي لا يسد حاجات أصحابه لأيام قليلة يجبرك على الوقوف ساعات لتقبض على جزء منه، وكأنك تطارد هارباً، إذ يحتاج الناس، بسبب قرار تحديد سقف السحب، لصرف عدة ساعات من أعمارهم، في ثلاثة أيام متفرقة من ثلاثة أسابيع لاستلام رواتبهم الشهرية على شحّها.

«مستاهلة توقفي هالوقفة؟»

مليون وثمانون ألفاً بعد ثلاثين سنة من خدمة الدولة، ماذا تكفي؟ يقولها أحد المتقاعدين المسنين في حسرة للرجل الذي يشاركه الوقوف أمام إحدى كوات المصرف. يتبادل السوريون أطراف الحديث لتزجية الوقت الهارب من أعمارهم، يحكون قصصهم ومشاكلهم الواقعية والموجعة لدرجة مخيفة. حكايات وأحاديث لأناس جمعتهم طوابير الرواتب هذه المرة، أو «المعاش» كما يطلق عليه البعض، تملك هذه التسمية مطابقة أكثر للواقع. «مستاهلة توقفي هالوقفة؟» هذا ما قالته إحداهن عندما سمعت إجابة موظفة متقاعدة عن راتبها، «معاشها» والذي لم يتجاوز المليون ليرة، فردت عليها الأولى مبررة: «ليش بس أنا... كل الموجودين هون، لو مو محتاجين، بيذلوا حالهن بهالوقفة؟»

«ذلّ ما بعده ذلّ»

الوضع ليس أحسن داخل المصرف، فالقاعة ممتلئة، وجوه متعبة وعيون منطفئة، وصراخ المدير مدوٍّ على مراجع جاء بعد العاشرة والنصف صباحاً، وأراد أن يأخذ دور سحب، ولكن الأوراق المحدودة بيد الموظف انتهت، فاضطر هذا لإحالة المراجع المعترض على إنهاء السحب لمن يأتي بعد العاشرة والنصف إلى المدير، «ما عندي مصاري أعطيك، تعا من الصبح لتاخد دور»، وكأنه مشهد في فيلم، انسحب المراجع متمتماً، وعاد المدير ليصرخ على امرأة مسنة سألته حول السحب، ولماذا يقبضون فقط 300 ألف، بدلاً من مليون، حسب ما أكدوه في الإعلام، أو على الاقل 600 ألف كما في الكوات الخارجية؟

يؤكد أحدهم: «لا 300 ولا حتى 600 تكفي لكم يوم» يتوافق معه كثيرون، ليبدأ حديث طويل، مرة أخرى، عن الذل. نساء مسنات لا يمكنهن الوقوف، امرأة رجلها مكسورة تتعاطف معها النساء فتتلقى بعض المساعدة، في «تضامن نسائي» واقعي ومباشر! وأخرى من الريف البعيد تؤكد أنها اضطرت للنهوض قبل الفجر من أجل أن تلحق الدور.

قبل العصافير

يطرح الناس سؤالاً حول بعض القرى والأرياف، منها «صحنايا وجديدة عرطوز وغيرها» لماذا يضطر العاملون بأجر والمتقاعدون للحضور إلى دمشق من أجل استلام رواتبهم؟ ولماذا لا تكون هناك كوات صرافة أو صرّافات لخدمتهم في مناطقهم؟ حيث يمكن تخفيف الأزمة عليهم بالوقت والتكاليف؟ وتخفيف بعض الازدحام عن قلب العاصمة دمشق؟ بدلاً من اضطرارهم للاستيقاظ باكراً «قبل العصافير» والانتظار لساعات إذا كانوا محظوظين وأخذوا بطاقة دور قبل العاشرة؟

«ودائماً هناك خشبة مكسورة»

لا تتناسب الأحاديث البهلوانية في الإعلام ووسائل التواصل عن المشاريع الاستثمارية في سورية مع طوابير الرواتب والمعاشات. ولا وعود «ازدهار الأوضاع الاقتصادية للسوريين بين عشية وضحاها وفقاً لما يروجه البعض» إذ ثمة أضرار جسيمة في مختلف القطاعات، تحتاج إلى حلول وجهود حقيقية لتجاوزها. وطوابير الرواتب هذه هي واحدة من فصول المعاناة التي يعيشها السوريون، والتي تحتاج لسياسات مختلفة وتنفيذ مجموعة إجراءات متزامنة وواضحة لتحجيمها وانهائها لاحقاً.

بالعودة إلى طابور يوسف إدريس، استطاع الناس كسر إرادة مالك الأرض والشركة التي استلمت السوق بعده، حتى بعد أن «أقامت بدل السور الخشب سوراً من الحديد كلما بلي جددته... واستعانت بالمركز فجعل لها كل سبت كوكبة من الخيّالة تجوب السور رائحة غادية» ومع هذا «إلا أنك إذا وقفت في الصباح الباكر من أي سبت فسوف تجد المشاية تحفل بالطابور الذي لا تعرف كيف يبدأ ولكنك تراه ينتهي في السوق من خلال السور. ودائماً هناك خشبة مكسورة».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1246