عن العزلة وخطاب «الحاوي»

عن العزلة وخطاب «الحاوي»

أكدت صحيفة يديعوت أحرنوت «الإسرائيلية» أن خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة الذي استمر 41 دقيقة تصدر عناوين الصحف العالمية ليس بسبب محتواه، بل بسبب الانسحاب الجماعي الذي سبقه للعديد من الوفود تجاوز 77 وفداً حسب الصحيفة.

«وقف نتنياهو وحيداً أمام قاعة شبه فارغة وبقيت المقاعد شهوداً صامتة»، هكذا وصف أحد التقارير الإعلامية العزلة غير المتوقعة والتي لم تتمكن الكاميرات من إخفائها، عزلة غير مسبوقة في تاريخ الكيان الصهيوني، التقطتها الكاميرات بوضوح وقف فيها نتنياهو أو «الحاوي»، كما وصفته تقارير إعلامية بسخرية واضحة، بكامل عدته: «كود على ياقة الجاكيت، ولوحات وأسئلة وامتحانات ومكرفونات في غزة لنقل الخطاب، وفرقة المشجعات لتصفق له في القاعة الفارغة، وكان ينقص أن يخرج من فمه أرنباً»

في مقارنة سريعة بين خطاب نتنياهو في 24 يوليو 2024 أمام أعضاء الكونغرس الأمريكي، والذي قوبل حينها بالتصفيق والصفير الحاد، أحصت وسائل الإعلام 81 مرة من التصفيق في كلمة استمرت 52 دقيقة أي بمعدل مرة كل نحو 40 ثانية بشكل متقطع! بينما أظهر مشهد دخوله من قاعة الكونغرس إلى المنصة الرئيسية أكبر فترة تصفيق تجاوزت ثلاث دقائق مستمرة، ووصل به الأمر أن طلب من الحاضرين: «ألّا يصفقوا بل يستمعوا إليه فقط»، في مقارنة مع خطاب «الحقائق البديلة» أخيراً في قاعة شبه فارغة وصلها بطائرة تجنبت أجواء أوربة خوفاً من الملاحقة القانونية، ثم اعتلى منبرها بدبوس على بدلته يحمل رمز QR دعا الحاضرين إلى تصويره، ومشاهدة فيلم عن «هجوم السابع من أكتوبر»، كما سمّاه، وأطلق اختباراً مفاجئاً يسأل فيه: «من ينادي بالموت لأمريكا؟» وفي اللحظة نفسها كان الآلاف يتظاهرون خارج القاعة أمام مقر الأمم المتحدة تنديداً بكلمته، تتوضح حالة التراجع والعزلة التي يعيشها الكيان وبأكثر صورها هزلية وإثارة للسخرية، جُمع في مشهد واحد، عنوانه: «عزلة الخطاب في الداخل، وضجيج الاحتجاج في الخارج».

يبدو أن معركة طوفان الأقصى وتداعياتها الواسعة ما زالت تتفاعل، وتقود بالتدريج نحو تعزيز وعي عام جديد يتشكل في العالم أجمع، اليوم، تجد «إسرائيل» نفسها وحيدة مجدداً ليس في بيئة قريبة فقط ما زالت معادية، بل في العالم أجمع، رغم علاقاتها وصداقاتها مع العديد من الحكومات، إلا أن للشعوب رأياً آخر، فقد بدأت ملامح جديدة تتشكل حول أولوية التصدي للصهيونية العالمية واعتبارها عدواً مشتركاً لا مصلحة لأحد في انتصاره.

«خريطة اللعنة»

كالمعتاد كرر نتنياهو كذباته، «لا مجاعة في غزة، وإسرائيل أدخلت طن مساعدات لكل مواطن»، كذبة واضحة تناولتها وسائل الإعلام بالتهكم: «فعلى هذا الأساس، يفترض أن يكون سبب الوفاة في غزة السمنة الزائدة!، وقد تفوق في هذا حتى على ماري أنطوانيت التي قالت يوماً: إذا لم تجدوا خبزاً فلتأكلوا كعكاً»، وأكاذيب أخرى منها «أن إسرائيل لا تنفذ إبادة جماعية» مما دعا كثيرون إلى إخراج الفيديوهات التي يدعو فيها وزراء حكومته بتهجير سكان غزة، وحتى مطالبة بعضهم بإلقاء قنبلة نووية عليها»

ثم رفع ما سمّاه «خريطة اللعنة» التي جمعت غزة ولبنان والعراق واليمن تحت عنوان «محور الإرهاب الإيراني» محذّراّ من النووي الايراني ورافضاً الاعتراف بدولة فلسطينية...إلخ. في محاولته المزج بين التهديد والوعود رسم نتنياهو صورة أرادها شاملة، ولكن ما بين الخرائط والاختبارات والوعود بقيت الصورة الأوضح في عزلة المنبر، المقاعد الخالية تروي أكثر مما قاله الخطاب والمظاهرات المنددة في الخارج تدفع بأسئلة محقة حول من سيدفع ثمن هذه اللغة؟

لعنة الصورة

تحاول «إسرائيل»، أن تكسب حرب الهيمنة على الوعي مستخدمة ثنائية المظلومية والقوّة الغاشمة، وتخوض حرباً من نوع مختلف خاصة في أمريكا والغرب، معركة جديدة في الفضاء الرقمي تطلق فيه الروايات وتدار على الشاشات. وهذا ما أكده نتنياهو بوضوح عندما جلس مع مؤثرين أمريكيين وأطلق حملة رقمية تعرف ب (Mission Briefing) هدفها استثمار تأثيرهم في توسيع رواية إسرائيل عالمياً، وأكد على أهمية منصة إكس وضرورة استخدامها كأداة حاسمة. وأيضاً هنا يطرح السؤال نفسه: إذا كانت «الحقيقة واضحة» كما يدعي نتنياهو فلماذا يحتاج إلى جيش إلكتروني؟ وإذا كانت «القضية عادلة» فلماذا يحتاج إلى أسلحة رقمية لإقناع العالم بها؟

في حرب الهيمنة على الوعي لن يحظى كيان استعماري مجرم لم يشهد له مثيل في الوحشية بالخاصية التي حظي بها مُستعمرون قُدامى، استطاعوا الهرب من الصورة وكتبوا بعض سير التاريخ على هواهم، ربما نجح الكيان الصهيوني في رسم صورته الخاصة وسرديته في فترة محددة ولكن اليوم تهتز هذه الصورة وتتضعضع هذه السردية وتتآكل. فبعد أن ملأت جميع الصفحات والقنوات والمواقع صور الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في غزة، لم يعُد كيان الاحتلال قادراً على إخفاء تلك الجرائم. حتّى أصدقاؤه الذين يحاولون تبرير كل مجزرة، لم يعودوا قادرين على الفوز في معركة الرواية. قد تكون لعنة مواقع التواصل الاجتماعي قد حلّت عليهم وعلى الكيان، ولم يعد بإمكانهم الهروب مثل المُستعمِرين القُدامى من حرب الصورة، فإسرائيل اليوم مُجرمة أمام عيون العالم. إذ قلبت صور الحقائق هذه المرّة، فمنذ ظهور الهاتف ومن بعده الكاميرات في كُلّ يد حتى مواقع التواصل الاجتماعي، لم تعد صورة الأشياء تخص أحداً بعينه دون الآخر، بل صارت عامة، للجميع، صارت ذكريات الكوكب ولحظاته وكُلّ ما فيه من أحداث وبشر وأماكن، ملكاً لكُلّ سكان كوكب الأرض.

هذه المرة من إفريقيا

المقاطعة الشعبية «لإسرائيل» تتمدد، فهي ليست ظاهرة عابرة بقدر ما تعكس وعياً حقيقياً وإدراكاً شاملاً بطبيعة كيان الاحتلال وجرائمه. ولم يقتصر تمدد مقاطعة ومحاصرة «إسرائيل» وعزلتها على الغرب، بل تمدد إلى دول وقارات أخرى منها القارة الإفريقية التي باتت مقاطعتها الرسمية والشعبية حاضرة وفاعلة ومؤثرة وتتسع أفقيا وعمودياً، ولم يعد مقتصراً على المواقف الرسمية بل تدحرج إلى المواقف الشعبية والرياضية والفنية والاقتصادية والأكاديمية.

فمثلاً، أطلق ائتلاف يضم نحو 400 شخصية غانية بارزة حملة واسعة تطالب بالإلغاء الفوري لمهرجان الأفلام الإسرائيلي، المقرر عقده بين 16 و20 أيلول 2025 في سينما «سيلفر بيرد» بمركز «أكرا» التجاري، إيذاناً بانضمام غانا إلى حركة المقاطعة الثقافية العالمية بسبب الحرب على غزة.

وجاء في بيان الائتلاف الغاني الذي يضم منظمات مجتمع مدني وفنانين وأكاديميين وطلاباً وقادة دينيين ومواطنين بارزين، إن المهرجان يمثل «حدثاً دعائياً صهيونياً» يهدف إلى «تبييض صفحة الإبادة الجماعية والفصل العنصري».

إن مقاطعة «إسرائيل» وحصار تمددها وتآكل روايتها وانفضاح ممارساتها وانكشافها أمام العالم؛ باتت أبرز العناوين التي تشغل الإعلام العالمي وتدق الخزان حتى لدى بعض الصحافة العبرية داخل الكيان نفسه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1245