قضية الغرباء: عندما تصبح المأساة السورية مادة سينمائية غربية
تحليل نقدي لفيلم «قضية الغرباء» وإشكاليات التمثيل السينمائي للثورة السورية
في قاعة سينما الكندي بدمشق، وسط صمت مشحون بالترقب، انتهى عرض فيلم «قضية الغرباء» (The Strangers’ Case) للمخرج الأمريكي براندت أندرسن تاركاً المتفرجين وعلى رؤوسهم الطير. كان الجمهور السوري يشاهد معاناته منعكسة على شاشة كبيرة، لكن هذه المرة من خلال عين غربية، وبتقنيات سينمائية متقدّمة، ورؤية تحمل في طياتها كل تعقيدات العلاقة بين المركز والأطراف في عالم صناعة السينما.
فيلم بين الواقع والخيال
يتتبع فيلم «قضية الغرباء» مأساة تضرب عائلة سورية في حلب، مما يؤدي إلى سلسلة من الأحداث التي تؤثر على خمس عائلات مختلفة في أربع دول.
الفيلم، الذي فاز بجائزة في مهرجان برليناله الألماني، يقدم نفسه كعمل إنساني يحاول نقل تجربة اللجوء السوري إلى العالم. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل نجح في تجسيد المعاناة السورية بصدق، أم حوّلها إلى مادة استعطافية تخدم ضميراً غربياً يبحث عن الطمأنينة؟
إشكالية التمثيل والصدقية الفنية
تكمن إحدى المعضلات الأساسية في الفيلم في طريقة تناوله للمعاناة السورية. فرغم الجهود الحقيقية التي بذلها أندرسن - الذي استوحى كل شخصية في فيلمه من أفراد التقى بهم خلال نزوح اللاجئين السوريين - إلا أن الفيلم يقع أحياناً في فخاخ التبسيط والميلودراما التي تميز الإنتاج الهوليوودي عند تناوله لقضايا الشرق الأوسط.
هذا التناول يطرح سؤالاً أوسع حول جدوى استحضار الفقد والاعتقال والفساد السلطوي بصرياً على أيدي مخرجين أجانب. فبينما تستطيع السينما - حين تتجنب المباشرة والمبالغة - أن تقفز فوق فخاخ التصنيف الدعائي وتقترب من مراجعة حقيقية للذاكرة الجمعية، فإن خطر الوقوع في الابتذال والاستعطاف يبقى قائماً، خاصة حين يكون المخرج خارج السياق الثقافي المحلي.
الغرب المنقذ: سردية مألوفة في ثوب جديد
تبرز إشكالية «الغرب المنقذ» كإحدى أبرز نقاط الضعف في الفيلم. فرغم محاولة أندرسن تجنب النظرة الاستشراقية المباشرة، إلا أن بنية السرد تعيد إنتاج العلاقة الهرمية المألوفة، الغرب كمساحة للأمان والحلول، والشرق كمصدر للمشاكل والمآسي. هذا التأطير ليس مجرد مسألة فنية، بل يحمل أبعاداً سياسية عميقة تتجاهل الدور الذي لعبته القوى الدولية في إطالة أمد الحرب السورية.
وكما لاحظت مراجعة نقدية في مجلة «فارايتي»، فإن الفيلم يتمتع بمهارة تقنية عالية، لكن السرد غالباً ما يبدو «مفتعلاً بطريقة رخيصة لخلق التشويق». هذا التلاعب بالمشاعر، رغم نجاعته في إثارة التعاطف، يقلل من قدرة الفيلم على تقديم تحليل عميق لجذور المأساة السورية.
الجمهور السوري وسؤال الهوية
في النقاشات التي تلت العرض في دمشق، برزت أصوات متباينة حول قيمة الفيلم. فبعض الحضور رأى فيه فرصة لإيصال المعاناة السورية إلى العالم، بينما اعتبره آخرون شكلاً جديداً من أشكال الاستلاب الثقافي. وقد علقت امرأة ستينية من الحضور بمرارة: «نحن نعيش قصتنا كل يوم، لسنا بحاجة إلى من يشرح لنا معاناتنا.»
هذا التباين يعكس معضلة أعمق تواجه الثقافة السورية في مرحلة اصطلح على تسميتها شعبياً «بما بعد السقوط»: كيف نحافظ على السيادة على سردياتنا في عالم تهيمن عليه صناعة الإنتاج الثقافي الغربية؟ وكيف نتعامل مع أعمال تحمل نوايا حسنة لكنها تعيد إنتاج علاقات القوة الاستعمارية في المجال الثقافي؟
السينما السورية: البديل المفقود
يكشف نجاح فيلم «قضية الغرباء» دولياً عن أزمة عميقة في السينما السورية. فبينما ينجح المخرج الأمريكي في إنتاج عمل بميزانية ضخمة وترويج دولي واسع، تبقى الأعمال السورية محدودة الإمكانيات والانتشار. هذا الواقع يثير أسئلة حول فاعلية السينما السورية في كسر القطيعة بين الشاشة الكبيرة والجمهور المحلي.
الأفلام السورية المشاركة في تظاهرة دمشق، مثل «نزوح» لسؤدد كعدان أو «الداخل مفقود، والخارج مولود» لوليد المدني، تظهر قدرة المخرجين السوريين على تقديم رؤى أكثر عمقاً وأصالة لتجربة شعبهم. لكن هذه الأعمال تفتقر إلى الإمكانيات الإنتاجية والتسويقية التي تمكنها من المنافسة عالمياً، مما يترك المجال مفتوحاً للأصوات الخارجية لتحتكر تمثيل المأساة السورية.
تحدي بناء الذاكرة البصرية
تطرح تجربة مشاهدة «قضية الغرباء» في دمشق اليوم سؤالاً جوهرياً حول وظيفة السينما «بعد السقوط»: هل يكفي أن تكون مجرد أداة تخليد «للثورة»، أم يجب أن تصبح مشروعاً مفتوحاً لاستعادة حق الناس في النظر والحكم على ماضيهم ومستقبلهم؟
الخطر الحقيقي ليس في وجود أفلام غربية تتناول القضية السورية، بل في غياب البديل السوري القادر على المنافسة. فحين تصبح الصورة السينمائية للثورة السورية محكومة بمعايير جمالية وأخلاقية خارجية، حتى لو كانت حسنة النية، فإن ذلك يشكل خطراً على السيادة الثقافية لا يقل عن خطر الهيمنة السياسية.
نحو سيادة ثقافية حقيقية
لا يهدف النقد الموجه لفيلم «قضية الغرباء» إلى رفض التعاون الثقافي الدولي أو إنكار حسن نيات صانعيه، بل إلى فتح نقاش ضروري حول شروط هذا التعاون وآلياته. والسؤال المركزي هو: كيف يمكن بناء شراكات حقيقية تقوم على المساواة، حيث يكون للصوت السوري دور فعال في صناعة القرار الفني والسياسي للعمل؟
والجواب يتطلب استثماراً جدياً في بناء صناعة سينمائية سورية قادرة على تقديم البديل الأصيل للسردية الغربية.
هذا يعني ليس توفير الإمكانيات المادية فقط، بل تطوير رؤية نقدية واضحة أيضاً حول معنى الصدقية الفنية وحدودها، وحول الفرق بين استحضار المعاناة كذاكرة حية وبين تسليعها كمادة استهلاكية.
خاتمة: المعركة مستمرة
تبقى تجربة مشاهدة «قضية الغرباء» في دمشق درساً مهماً في تعقيدات المرحلة الانتقالية. الفيلم نجح في إثارة النقاش وطرح أسئلة مهمة حول علاقة السينما بالسياسة والهوية، لكنه أيضاً ذكّر السوريين بأن المعركة الثقافية لا تقل أهمية عن المعارك الأخرى.
السؤال الذي يبقى مفتوحاً ليس ما إذا كانت السينما الغربية ستستمر في تناول القضايا السورية، بل ما إذا كانت السينما السورية ستتمكن من بناء صوتها المستقل وقدرتها على المنافسة. المعركة الحقيقية هي معركة بناء أدوات التعبير الثقافي الذاتي، وهذه معركة لم تنتهِ بعد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1245