قواعد المقاومة: إعادة تصوّر فلسطين فيما بعد الشفقة والخوف

قواعد المقاومة: إعادة تصوّر فلسطين فيما بعد الشفقة والخوف

في حوارٍ فكري معمّق، يجيب المفكر الفلسطيني عبد الجواد عمر (المعروف أيضاً باسم عبود حمايل)، الأستاذ المساعد في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت، عن أسئلة الصحفي الإيطالي باسكوال ليجوري، منطلقاً من فكرةٍ جوهرية مفادها أنه لم يعد ممكناً الحديث عن فلسطين من داخل الثنائيات التي يفرضها الخطاب الغربي السائد: بين تعاطف إنساني أجوف لا يمسّ بنى الهيمنة، وبين واقعية استراتيجية باردة لا مكان فيها للتخيل السياسي. في كلتا الحالتين، تُجَرَّد المقاومة الفلسطينية من مضمونها؛ إما أن تُختزل إلى رد فعل عاطفي مَرضي، أو أن يتم استبعادها تماماً من دائرة العقلانية السياسية. عندما لا تُلقى عليها نظرة الشفقة، يتم تجريمها. وفي كثيرٍ من الأحيان، يحمل هذا التجريم سمات الإسلاموفوبيا المألوفة: فالمقاومة تُصوَّر إرهاباً، والبقاء على قيد الحياة يُصوَّر تهديداً، والفكر نفسه يُصوَّر تطرفاً محتملاً.

لكنّ المقاومة الفلسطينية، كما يوضح عمر، تسبق هذه اللحظة، وتستمر خلالها، وستستمر بعدها، ليس كرد فعل يائس، بل «كـاقتراح» مقدّم للعالم. إنها مقاومة تفكر وتخلق وتتخيل مستقبلاً مختلفاً. لا تسعى إلى الحصول على إذن من أحد، ولكنها تنادي كل ضمير سياسي غير مستسلمٍ للنظام الإمبريالي.

أصول السردية الغربية وآلياتها

يفنّد عمر الأصول العميقة للرواية الغربية السائدة عن فلسطين، مُرجِعاً إياها إلى بنية استعمارية لا تقتصر على العلاقة بين «إسرائيل» وفلسطين فحسب، بل تتعداها إلى فرض هيكلٍ عالمي يتطلب بقاء المنطقة العربية مُفكَّكةً وخاضعة. فالاستعمار، في جوهره، لا يحتّل الأرض فقط، بل يحتّل الزمنية (Temporality) ذاتها؛ فهو يفرض مفهوماً خطياً للزمن يكون فيه المستعمَر دائماً متأخراً، وغير جاهزٍ بعد للحرية. ضمن هذا النظام، إما أن تُصوَّر المقاومة بأنها «سابقة لأوانها» (غير عقلانية، عاطفية) أو «بالية» (عديمة الجدوى، قديمة). كلا التصويرين يعمل على تغييب الخيال السياسي.

«بل إن المقاومة الفلسطينية، خاصة في أصفى تجلياتها وأكثرها تمرداً على الاستتباع (unassimilable)، ترفض هذا المنطق جملة وتفصيلاً. فهي لا تستأذن في نضالها مستقبلاً وعد به اتفاق أوسلو الزائف، ولا تترقب اعترافاً من أفق شرعية دولية آيلةٍ إلى الأفول.»

بدلاً من ذلك، تقوم بالمقاطعة (Interruption). إنها تصر على «الآن» – ليس كنقطة على الخط الزمني، بل كموقع للمواجهة، وصنع المعنى، والخطاب السيادي. إنها تفتح الزمن الاستعماري ليس من خلال التأكيد على وجود المستعمَر فقط، ولكن من خلال رفض الأدوار المُخصصة له في نص التاريخ.

هنا، المقاومة ليست مجرد رد فعل – بل هي وجودية (Ontological). إنها تُحدث نوعاً من التمرد ضد الزمن نفسه، منتجةً ما يمكن تسميته «الزمنيات المضادة» (Counter-temporalities): لحظات يصبح فيها المستعمَرون معاصرين لأنفسهم، حيث ينطوي التاريخ، ويمشي الموتى مع الأحياء. فالشهيد ليس مجرد شخصية مأساوية، بل هو من ينهي الفصل بين الماضي المُضحّى به والمستقبل المُستعاد. اللاجئ الذي يعود دون «عودة» فعلية. هذه ليست مجرد استعارات؛ إنها تمردات زمنية.

المقاومة الإبستمولوجية: اختراق قواعد المعرفة

في مواجهة هذا المحو المنهجي للمعنى، تبرز الحاجة إلى ما يسميه عمر «المقاومة الإبستمولوجية» (Epistemological Resistance). هذه المقاومة ليست تجريداً نظرياً، بل هي جبهة نضال لا تقل أهمية عن الجبهة المادية. فالقمع في الوسائل الإعلامية والمؤسسات الغربية – رغم تطور أدواته – لا يتعلق بالصمت فقط، بل يتعلق بالتأطير، وكتابة المرئي والقابل للقول مسبقاً.

حتى في الأماكن التي تظهر فيها الشقوق – حيث يتم ذم نتنياهو، أو إبداء «القلق» على «المدنيين» الفلسطينيين – يبقى النظام الاستعماري سليماً في الفكر. لا تزال حرب «إسرائيل» تُعامل على أنها انحراف عن المعايير الليبرالية، وليس كنتيجة حتمية لمشروع استيطاني-استعماري تدعمه الموافقة الإمبريالية. يتم إدانة العنف، ولكن لم يتم تسمية البنية المعمارية التي تجعل هذا العنف ضرورياً أبداً. هذه هي وظيفة الأيديولوجيا: استبدال الأسباب بالأعراض، وعزل الشخصيات عن الأنظمة، والوعظ الأخلاقي بدلاً من التوضيح التاريخي.

تبدأ المقاومة الإبستمولوجية، إذاً، بعدم الانصياع لهذا النظام المعرفي. إنها الإصرار على التحدث من داخل التجربة التاريخية الفلسطينية، ليس كمكمل للخطاب السائد، بل كعامل اضطراب فيه. هذا يعني رفض القواعد النحوية التي تجعلنا مرئيين كضحايا فقط، ورفض الأطر الأخلاقية التي تميز بين «العربي الجيد» و«المقاتل»، ورفض التأجيل الزمني الذي يطلب من الفلسطينيين الانتظار والهدوء والتفاوض بينما تتهاوى الأرض تحت أقدامهم.

الفاشية «الإسرائيلية»: من الغراء إلى رأس الحربة

يتعمق الحوار في تحليل الطبيعة الفاشية للمجتمع «الإسرائيلي»، محذراً من اختزال الفاشية في مظاهرها الأكثر صخباً (التطرف الديني، الدعوات الصريحة للتطهير العرقي). فالفاشية في إسرائيل اليوم، كما يرى عمر، لا تقتصر على التيار الديني المتطرف، بل هي موجودة في «الوسط العلماني الليبرالي» الذي لا يرى في الحياة الفلسطينية سوى مشكلة يجب إدارتها والسيطرة عليها واستئصالها.

هناك تواطؤ عميق في الليبرالي «الإسرائيلي»: الذي ينعى «فقدان الديمقراطية» بينما يهتف للحروب التي لا يمكن الفوز بها، والذي يدين «التطرف» بينما يؤمن – في أعماقه – أن السيادة اليهودية تتطلب اختفاء الفلسطيني. هذه هي الفاشية بدون مسيحانية، الفاشية بدون أداء الحماس. إنها فاشية بالإجماع، وبالروتين، وبالعقلانية الإدارية.

ما يجعل هذه اللحظة خطِرةً للغاية هو ليس عنف الفاشية «الإسرائيلية» في الشكل فقط، بل انتشارها في الجوهر عبر الطيف السياسي. هذا مجتمع لا يتسامح مع الفاشية فحسب، بل يحتاج إليها، وإن كان ذلك بلهجات وأكواد لباس مختلفة. إنها، باستعارة عبارة [فالتر] بنيامين، «تجميل السياسة» متنكراً في شكل براغماتية – وغزة هي لوحتها القماشية.

المستقبل: من تحرير الدولة إلى آفاق ما بعد الدولة

ينتقل النقاش إلى أحد أبرز التوترات في الفكر الفلسطيني النقدي: الصراع بين التحرر الوطني من أجل الدولة، والأفق السياسي لما بعد الدولة. من ناحية، لا يزال التوق إلى السيادة والعلم والاعتراف الدولي وكرامة الدولة قوياً، خاصة في عالم حيث عدم التمتع بالجنسية يعني المحو والتفتيت والإخضاع اللا متناهي. من ناحية أخرى، أصبحت الدولة – كما هي موجودة في العالم ما بعد الاستعماري، كصيغة ورثتها من خرائط الاستعمار واستمرت بواسطة المؤسسات الإمبريالية – موقعاً للإدارة، وليس للتحرر.

يطرح عمر رؤيةً «لسيادة غير سيادية» (Non-Sovereign Sovereignty) – شكل من أشكال الحياة السياسية الجماعية الذي لا يرتبط بدولة قومية Westphalian ولا يختزل إلى خيالات حوكمة المنظمات غير الحكومية. يمكن تسميتها خيالاً اتحادياً، أو سياسيات كونفدرالية هاربة، أو حتى ولاية قضائية decolonial من دون دولة – لكن يجب بناؤها من الأسفل، من خلال ممارسات التضامن، وإدارة الأرض، والعودة، والرفض. يجب أن تستمد من نضالات السكان الأصليين، والتقاليد الجذرية السوداء، والفكر العربي المناهض للدولة، دون المثالية في نتائجها.

مثل هذه الصيغة السياسية لن تسعى إلى الحصول على اعتراف من الأمم المتحدة، بل من التاريخ. لن تقوم بشرطة الحدود، بل ستهدم ميتافيزيقيا التقسيم ذاتها. ستركز على العودة – ليس كإعادة توطين فيزيائية فقط، بل كإعادة تأكيد للحضور السياسي حيث كان مقدر لنا أن نختفي.

الخاتمة: إرث الصمود وانزياح مركزية العالم

يخلص الحوار إلى أن الدمار الحالي في غزة، رغم فظاعته، يكشف أيضاً عن «السقف الاستراتيجي» للصهيونية. لقد أظهرت «إسرائيل» أنها قادرة على التدمير، ولكن ليس على الحكم. قادرة على التهجير، ولكن ليس على الإبادة. قادرة على القصف، ولكن ليس على الحل. في هذا الفشل، يكمن أفق جديد للنضال – لا يرتكز على التنسيق الإقليمي فحسب، بل على أشكال مبعثرة ولا مركزية وعابرة للحدود من المواجهة.

الأهم من ذلك، أن صورة فلسطين لم تعد مجرد «كارثة إنسانية» في الضمير العالمي، بل هي آخذة في التحول إلى موقع «إعادة توجيه عالمي» (Global Reorientation)، حيث يُجبر الغرب على مواجهة الكذبة في قلب شموليته. هذه المواجهة – المؤلمة، المُزعزعة للاستقرار، والتي لا يمكن حلها ضمن الحدود الليبرالية – هي في حد ذاتها شكل من أشكال التمرد الإبستمولوجي.

بتصرف عن موقع Monthly Review

معلومات إضافية

العدد رقم:
1243