التراجع وكسر تابو «الهيمنة»

التراجع وكسر تابو «الهيمنة»

ثمة تحولات عميقة وواسعة في الرأي العام العالمي حول ما يجري في العالم، ومنها منطقة الشرق الأوسط، وبالتحديد، فلسطين وقضيتها العادلة، بدأت تظهر بوضوح خلال الفترة القصيرة السابقة، وطالت مجالات عديدة ومختلفة ومن أبرزها الصناعة الثقافية.

هذه الصناعة التي لعبت ولعقود دوراً في تكريس بنية ثقافية محددة وساهمت في استعمار العقول والمخيلة الجماعية وغذت نزعات وروايات لتبرير حملات ومحاولات الهيمنة الغربية على العالم، فبررت الاحتلال والعنف والتدخل في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية...إلخ للشعوب والبلدان المستهدفة. تشهد اليوم هذه الصناعة مثلها مثل بقية المجالات الأخرى في العالم الغربي حالة من التراجع، تظهر في تصدع «التابوهات المطلقة» التي أنتجتها مؤسسات الهيمنة وعممتها لعقود.

فقد بدأت تظهر ضمن البنية الصناعية لهوليوود نفسها، مجموعات وكيانات مقاومة للهيمنة التقليدية. منها مجموعة «عمال السينما من أجل فلسطين»، وهو تحالف من العاملين المؤيدين لفلسطين في قطاعَي السينما والتلفزيون، ونظمت المجموعة سلسلة من الاعتصامات والاحتجاجات أمام مقرات أكاديمية الأوسكار وغيرها. كما وقّع أكثر من 1200 من صُنّاع السينما والتلفزيون حول العالم في بداية شهر أيلول الجاري– بينهم فائزون بجوائز الأوسكار والبافتا والإيمي والسعفة الذهبية – على عريضة تعهّدوا فيها بعدم التعاون مع الشركات والمؤسسات الإسرائيلية المتورطة في الإبادة الجماعية ونظام الفصل العنصري ضد الفلسطينيين.

ورغم أن هوليوود كمؤسسة لا تزال تميل إلى الاصطفاف القديم، ومازال «قول لا» صعباً، حيث إن مراكز القوى فيها – من استوديوهات ضخمة وشركات إنتاج كبرى ممولة ومدعومة من اللوبيات الصهيونية، ما زالت تهيمن على القرار فيها، ولكن التوازن اختلّ، فالسردية الصهيونية المهيمنة لوحدها لعقود تراجعت، وتجرأ نجوم كبار على توقيع بيانات تُسمّي الإبادة باسمها، وظهرت مبادرات ونقابات وأصوات ترفض الهيمنة والعبث بالوعي، وبدأ يتشكل وعي جديد يسمع الفلسطيني وهو يروي قصته. ويتضح أكثر فأكثر أن المخيلة التي طالما استُعمِرت لم تعد قابلة للإخضاع بالطريقة ذاتها.

شيء من التاريخ

لم تكن علاقة هوليود بالمشروع الصهيوني سوى تعبير عن شبكة متداخلة من المصالح الاقتصادية والثقافية. في أربعينيات القرن الماضي وتحديداً في عام 1947، نُشر إعلان على صفحة كاملة في مجلة Variety – المجلة الرئيسية لصناعة السينما – يحيّي فيه جهود الرئيس الأمريكي هاري ترومان للضغط على بريطانيا من أجل السماح بزيادة الهجرة اليهودية إلى فلسطين.

وقد وقع على ذلك الإعلان كوكبة من نجوم هوليوود آنذاك، منهم المغني فرانك سيناترا، والممثل همفري بوغارت، وبيتي ديفيس، وفينسنت برايس، والمخرج وليام وايلر وغيرهم، ومهد الإعلان لتبني أفكار المشروع الصهيوني بين أوساط هوليوود.

يوضح المؤرخان توني شو وجيورا غودمان في كتابهم «تاريخ هوليوود وإسرائيل»، الصادر عن جامعة كولومبيا في آذار 2022، أنه مع تزايد دعم الصهيونية في الولايات المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، ومع اقتراب قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي، بدأت شركات هوليوود العملاقة تتجه نحو هذه القضية، وظهرت نشاطات علنية لهوليوود في دعم الصهيونية.

قامت هوليوود بصياغة سردية لاحتلال فلسطين عبر أفلام قصيرة وعروض مسرحية جوالة موّلها نجوم السينما، جرى فيها تصوير إرهاب العصابات الصهيونية المسلحة بحق الفلسطينيين على أنه دفاع «يهودي مشروع» عن النفس.  وقد قام الكاتب والمخرج بن هكت بالتعاون مع الناشط الصهيوني بيتر بيرغسون بدور محوري في الضغط على الأستوديوهات للتبرع بالأموال لصالح العصابات الصهيونية، وحثّ كبار المنتجين على ممارسة نفوذهم السياسي في واشنطن لدعم قيام دولة يهودية في فلسطين «والسماح فوراً بدخول مئات آلاف اليهود» إلى فلسطين. لم يقتصر الدعم حينها على السينمائيين اليهود؛ فإلى جانب غولدوين ووايلر، وقّع رئيس شركة فوكس آنذاك سبايروس سكورس على إعلانات في الصحف تطالب بريطانيا بالرضوخ للمطالب الصهيونية. كما قام بعض المشاهير حينها، أمثال همفري بوغارت، وبيتي ديفيس، وفرانك سيناترا، برعاية فعاليات لجمع التبرعات في لوس أنجلوس لدعم إقامة دولة الاحتلال في فلسطين.

و لم يرد أي ذكر لنكبة الشعب الفلسطيني؛ حينها فقد تجاهلت الصناعة بالكامل مأساة تهجير 750 ألف فلسطيني وتدمير أكثر من 500 قرية خلال 1947–1948، بل على العكس فما إن أعلن قيام دولة الاحتلال الصهيوني حتى تعمّقت الروابط بين هوليوود والكيان فقد سارعت إسرائيل إلى تقديم حوافز سخية لجذب الإنتاج الأمريكي، من إعفاءات ضريبية إلى تسهيلات لوجستية وتصاريح تصوير في مواقع تاريخية، فكانت صحراء النقب والقدس، بالنسبة لصنّاع الأفلام، مكاناً مثالياً لإنتاج أفلام العهد القديم، خاصة مع ازدهار موجة الأفلام الملحمية الدينية في الخمسينيات. وصار هناك ما يشبه التواطؤ بين هوليوود والكيان المحتل، تواطؤ مصلحة كرّسته المصالح الاقتصادية للطرفين، فدولة الاحتلال كانت تحتاج العملة الصعبة والاستثمارات الأجنبية، ومؤسسة هوليوود رأت في أرض فلسطين تحت الاحتلال سوقاً واعدة ومواقع تصوير حقيقية للأساطير التوراتية التي كانت رائجة حينها

علاقة عضوية مباشرة

يوضح طوني شو وجيورا غودمان في كتابهما أن الكيان أولى، منذ البداية، أهمية خاصة لهوليوود في استراتيجيتها الدعائية هاسبارا (Hasbara)، سواء على الشاشة أو خلف الكواليس، وسرعان ما حولتها إلى أداة ناعمة للدعاية للصهيونية على المستوى العالمي. وكلمة هاسبارا في العبرية تعني حرفياً «توضيح» أو «شرح»، وهي تمثل جهداً سياسياً منظّماً لترجمة الدعاية الصهيونية إلى مفاهيم يفهمها العالم الغربي، وتعزيز صورة «إسرائيل» في أعين الغربيين وخصوصاً الأمريكيين.

أدرك القادة الصهاينة باكراً أن ربط روايتهم برموز الثقافة الشعبية الأمريكية سيكون سلاحاً فعالاً في كسب التأييد. وشكلت هوليوود، منذ قيام الكيان، بؤرة مركزية للدعاية الإسرائيلية، سواء عبر القصص التي تُروى على الشاشات أو عبر علاقات لوبي الكواليس بين منتجي هوليوود وقادة إسرائيل.

وانطلقت، على مدار العقود اللاحقة، سلسلة من الإنتاجات السينمائية الضخمة التي قدّمت الرواية الصهيونية كحقيقة تاريخية ورومانسية في آن. منها أفلام عديدة كفيلم (سيف في الصحراء) وفيلم The Juggle الذي حاول أن يرسم دراما إنسانية عن لاجئ يهودي نجا من المحرقة ليجد ملاذه في فلسطين المحتلة. وقد صور هذا الفيلم جزئياً في قرية «إقرت» الفلسطينية، بعد خمسة أعوام فقط من تهجير أهلها وتدمير بيوتهم على يد العصابات الإسرائيلية عام 1948.في مفارقة مأساوية حيث استخدم طاقم الفيلم أنقاض «إقرت» الحقيقية كخلفية للتصوير، متجاهلاً مأساة أصحاب الأرض الفعليين.

تغير ملحوظ

بينما غابت الرواية الفلسطينية تماماً عن شاشة هوليوود لعقود. ولم يُسمح لصوت داعم لفلسطين أن يروي حكايتهم، ومن تجرأ على محاولة ذلك جوبه بحملات قمع وترهيب، مارسته الدوائر الصهيونية في هوليوود لإسكات أي تعاطف مع الفلسطينيين أو انتقاد لإسرائيل.

لكن اليوم نشهد وضعاً مختلفاً، فبعد أن تدفّقت صور آلاف الفلسطينيين من الأطفال والنساء، على هواتف الناس، بما فيهم المشاهير. كسرت فظائع الاحتلال وممارساته الوحشية جدار الدعاية الذي طالما برّر كل أفعال إسرائيل تحت شعار «الدفاع عن النفس» إلى حد بعيد.

في البداية كانت مجرد مبادرات فردية شجاعة لقلة من المثقفين والأكاديميين... إلخ. ولكنها سرعان ما تحوّلت إلى خطوات جماعية أوسع، ففي أيار 2025، مثلاً، وقّع أكثر من 370 فناناً ومخرجاً خطاباً مفتوحاً يندد بالإبادة الجماعية في غزة، واليوم انضم فنانون وناشطون من 44 دولة ضمن أسطول الصمود العالمي، وعشرات السفن المحمّلة بالمساعدات الإنسانية في محاولة لكسر الحصار عن شعب غزة في أضخم تحدٍّ مدني للحصار الإسرائيلي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1243