أفكار متقاطعة: البوصلة ونقاء المعنى...

أفكار متقاطعة: البوصلة ونقاء المعنى...

في زمن تُختزل فيه البطولة في صور على الشاشات، وتُختطف فيه الكلمات الكبيرة إلى بيانات جوفاء، يطلّ جورج إبراهيم عبد الله، بعد أربعة عقود من الأسر لم تنجح في كسر روحه ولا في إخماد صوته، يرسل رسائل تخترق جدران سجن (الفوضى) الكبير أيضاً، بعد أن هزم السجن الباريسي الضيق، ويبث رسائل حيّة عن المعنى الحقيقي للالتزام، وعن روحٍ لا تعرف المساومة.

المثال والقدوة

ليس جورج مجرّد سجين سياسي سابق؛ إنه مقياس نقيس به صدق الشعارات، ومرآة نرى فيها الفرق بين من يجعل الفكرة جسداً يمشي على الأرض، ومن يكتفي بتحويلها إلى لافتة تهترئ مع مرور الزمن. في مرحلة تتفشى فيها الميوعة السياسية والانتهازية، يعيد جورج الاعتبار لفكرة القدوة الحقيقية: القدوة التي تُختبر في الميدان، لا في أروقة المكاتب، والتي لا تتراجع حتى لو استمرت المعركة العمر كله.
سألت الصحفية جورج إبراهيم عبد الله بإلحاح: ألا تخشى على نفسك؟
ابتسم وأجاب، بثقة وتلقائية مَن آمن بقضيته حتى النخاع: هذا تفصيل صغير.
وفي مقابلة أخرى مع صحيفة لومانيتيه، سأله المحاور: ألا تخافون على حياتكم؟ فأجاب بلا تردد: شعبنا يُقتل كل يوم، وروحي ليست أغلى.
في هاتين العبارتين تتجسد روح نادرة، غيرية مطلقة، رغم تجربة الاعتقال المديدة، ما زال جورج يرفض أن يرى نفسه إلا كفكرة، كجزء من مسار نضالي أكبر من فرد، متحدياً كل ما يحاصر المشهد من إحباط ويأس وتشكيك وتردد. في حضوره تعود للكفاح معانيه العميقة وشروطه الأصيلة: الالتزام، والانتماء، وصدق الكلمة حين تلتقي بالفعل، والجذرية في مواجهة المواقف المائعة والانتهازية السياسية، والقدرة على الصمود ونكران الذات أمام غواية الاستعراض والتسلق على أكتاف الآخرين.
هكذا يطلّ نموذج المقاوم الحقيقي، بعيداً عن ثوار المكاتب والشاشات وصنّاع البطولات الورقية. إنّها الروح النقية التي طهّرتها التجربة من كل أشكال الأنانية والمساومة والانتهازية، وحوّلت القهر المتراكم عبر التاريخ إلى فعل واعٍ وعميق، يخاطب العقل ليستفزه نحو التأمل والتفكير، ويلامس الوجدان فيوقظه ويمده بالحيوية والاندفاع.

ظاهرة تاريخية

خطاب كهذا، مقترن بالممارسة، يعيد إلى الأذهان وجوهاً أخرى: كارل ليبكنخت، وفهد العراقي، وفرج الله الحلو، وغيفارا... ممن كانوا رموزاً تندمج مع قواعدها الاجتماعية والجماهيرية، تحترمها وتستمع إليها، وتعرف نبضها الحقيقي، وتعبر عنه، تعلمها وتتعلم منها تجمع بين التواضع وهيبة القيادة، تضحي بالنفس كي تبقى الفكرة.
وجود مثل هذه الرموز كان دائماً، عبر تاريخ الشعوب، شرطًا أساسياً لأي انتصار استراتيجي. فالفرد هنا لا يُختزل في شخصه، بل يصبح حاملاً لمنظومة قيم وأفكار، أولها الصدق، والشجاعة، والشعور العميق بالمسؤولية. ومن هنا نفهم لماذا تسعى أدوات الحرب الإعلامية–النفسية إلى شخصنة القضايا العامة، وتشويه الرموز الجامعة أو تهميشها أو إقصائها، في محاولة لضرب العقل والضمير الجمعي.

عكس التيار

جورج عبد الله، وهو الشيوعي (المسيحي) ينسف بسلوكه وموقفه الشجاع كل السرديات التي تستهدف فكرة المقاومة: من تلك التي تشكك في جدواها بذريعة اختلال موازين القوى وتدعو إلى الانحناء أمام العاصفة، إلى تلك التي تحصرها في طائفة أو جهة بعينها.

المقاومة كفكرة

المقاومة، في جوهرها، ليست خياراً إرادياً فقط، بل هي بالأصل ردّ فعل طبيعي على الظلم المتجسد في الاحتلال وأدواته. وطالما أن الاستعمار قائم، فإن المقاومة باقية، وإن تغيّرت أشكالها ووسائلها. إنها الفكرة التي تولد من نقيضها، وستبقى ما دام هذا النقيض موجوداً؛ إنها خيار الضرورة في عالم يفيض بالاغتراب والقهر.
يتحدد شكل المقاومة تبعاً لشكل الاستعمار. واليوم، ونحن نعيش تحت هيمنة استعمار مركّب متعدد الأبعاد: احتلال مباشر، واستعمار اقتصادي بأداته الدولار، والكومبرادور المحلي، واستعمار رقمي، والاستعمار بالفوضى، واستعمار ثقافة الاستهلاك وعولمة الاستسلام، لهذا، تصبح المقاومة الشاملة هي الاستجابة الواقعية الوحيدة، مقاومة ضد التبعية، وضد الطائفية، وضد الاغتراب بطرفيه: الظلامي – المتأمرك الدّوني.

الوعي المقاوم

لكي تكون المقاومة فاعلة، لا بد من شرط أساسي: الوعي المعرفي.
ويقوم هذا الوعي على:
كشف جوهر الاستعمار وأدواته في ظرفه الملموس وتحديد الهدف الرئيسي.
قراءة المرحلة التاريخية وتوازن القوى محلياً وإقليمياً ودولياً، مع تحديد العدو الأساسي، ورسم خريطة الحلفاء والممكن تحييدهم.
تحديد الحوامل الاجتماعية وأدوات النضال، وفي مقدمتها الدعاية والتحريض، باعتبارهما شرطاً لتجميع القوى وتراكم التجارب وتحويل النضال إلى حالة شعبية، لا مجرد نشاط نخبوي استعراضي غالباً.
إنه وعي يجمع بين وضوح الرؤية النظرية، ورومانسية الحلم الثوري، والروح العملية القادرة على الفعل.

العالم الواقعي والعالم الافتراضي

يكشف التفاعل الشعبي والسياسي مع قضية جورج عبد الله، وتنوعه، أن المقاومة متجذرة في وعي الناس، وأنها ليست حنيناً لجيل مضى، كما يحلو لإعلام البترودولار أن يروّج، أو كما يردد باعة الدم والضمير من أبواق الخطاب المتلبرل، أو كما يكرر ببغاوات وسذّج الميديا الرقمية.
النسبة الكبيرة من الشباب والصبايا الذين حضروا وتفاعلوا مع إطلاق سراح هذا المقاوم المزمن، تقول شيئاً آخر: المقاومة حاضرة، تنبض في وعي الأجيال الجديدة، وتجدّد نفسها مهما حاول الآخرون دفنها.
باختصار: ليست حكاية جورج عبد الله مجرّد فصل في سجل النضال، بل هي مرجع أخلاقي ومعرفي يذكّرنا بأن المقاومة ليست حدثاً عابراً، ولا ردّ فعل غاضباً ينطفئ مع الوقت. إنها خيار واعٍ، ممتدّ، يتغذّى من قناعة بأن الحرية لا تُستجدى، وأن الكرامة لا تُقايض.
حين نتأمل تجربة هذا الرجل، ندرك أن القوة الحقيقية تكمن في الثبات على المبدأ، وفي القدرة على تحويل الألم إلى وعي، واليأس إلى طاقة خلاقة. جورج، الذي رفض أن ينحني للعاصفة، يعلّمنا أن البطولة ليست في أن تنتصر سريعاً، بل في أن تبقى واقفاً حتى لو طالت المعركة.
وربما، في زمننا هذا المزدحم بالضجيج والخيبات، نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى رموز كهذه، تذكّرنا بأن المعركة ليست مع المستعمر فقط، بل مع كل من يحاول أيضاً أن يسرق منّا وضوح البوصلة ونقاء المعنى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1241