«الضحك في آخر الليل»
لم يعد جيل اليوم يتغذى من النشرات الإخبارية، كما في السابق، بل من المنصات الفورية، والبثوث الحية واللقطات غير المنقّحة لشهادات مباشرة.
«أنا حزين على قصف تل أبيب، لا أصدق أنّ الجميع سيضطر إلى ترك البيناكولادا والذهاب إلى الملجأ»، يقولها شاب أمريكي وعلى وجهه ابتسامة ساخرة في بث مباشر. ويكمل آخر: «أنا لا أفهم كيف يقصف أحدهم خمسة بلدان في أسبوع ويلعب دور الضحية، ألستم أنتم من بدأتم الاعتداءات؟» وتتابع فتاة أخرى متهكمة: «يا إلهي لا أصدق أنّ المنزل الذي سرقته للتو قد تم قصفه».
فرح صادق وصادم
على منصات التواصل المختلفة، عشرات الآلاف من مقاطع الفيديو، والمنشورات، والتعليقات، التي مزجت بين السخرية والارتياح وعلت الوجوه مظاهر فرح صادقة وصادمة. لم تكن وجوه ناشطين سياسيين أو مثقفين تقليديين، بل وجوهاً عادية لشبان وشابات أوربيين وأمريكيين، بعضهم لم يتحدث من قبل في السياسة التي عوملت لسنوات كسلعة ترفيهية أو نكتة عابرة، وبعضهم الآخر كان غارقاً في ثقافة الترفيه والاستهلاك والموضة، ولكنهم خرجوا فجأة من لا مكان ليعبّروا، وبلا مواربة، عن فرحهم بما وصفوه «أول لحظة يشعر فيها المجرم بالخوف».
لحظة شعورية جماعية، تشاركها هؤلاء، لم تأتِ نتيجة لقراءة مقالات سياسية أو مشاهدة تقارير إخبارية موجهة، بل هي خلاصة تراكم بصري ونفسي بدأت مع بداية حرب الإبادة الجماعية على غزة أواخر عام 2023. تحطّمت فيها الحواجز الإعلامية القديمة. وتعرض جيل بأكمله لصدمة بصرية وأخلاقية هائلة، ولم يكن ثمة خطاب رسمي أو إعلامي قادر على تبرير ما يراه مباشرة، مشاهد القصف المباشر وبكاء الأمهات على شهداء أطفال لم يرتكبوا أي أثم لكنهم كانوا يموتون يومياً فقط لأنهم فلسطينيون، أطفال يستغيثون قبل أن تنهار فوقهم الأبنية، وآخرون يستغيثون قبل أن يقتلهم الجوع وسط حصار ممنهج ونزوح متواصل وقصص حية ومشاهد يومية مرّت كمسلسل طويل لا ينتهي على هواتف الناس.
«أحسنت إيران الرد»
كل هذا أدى إلى جعل الشباب الغربي والأمريكي خاصة يرى في الرد الإيراني أداةً لكسر الصمت العالمي الذي طال أكثر ممّا يجب، «لقد ردّت إيران. وأحسنَت الرد» يقولها الشباب الأمريكيون، ويذهبون إلى أبعد من ذلك، من خلال استعمال الرواية الصهيونية نفسها ضد «إسرائيل»، «فالحق في الدفاع عن نفسها» يصبّ هذه المرة لمصلحة إيران، و«الخطر الوجودي» ليس إيران، أو سورية أو لبنان أو فلسطين أو اليمن أو سواها، بل من تجرأ على الاعتداء على هذه الشعوب واحداً تلو الآخر ودأب على ذلك، إنها «إسرائيل» نفسها.
محاكمة القوة لا تمجيدها
لم يأت هذا الفرح الأمريكي الشعبي الذي أربك المؤسسات السياسية والإعلامية الغربية، كنزوة عابرة، أنه جرس إنذار ومؤشر عميق على ولادة وعي جديد لجيل لا يؤمن بالروايات الرسمية، ولا يثق في سياسات حكامه ولا تحالفاتها «المطلقة»، جيل اضطرته سياسات بلاده ونفاق إعلامها ومؤسساتها إلى التشكيك في كل شيء. جيل كان يُنظر إليه كمستهلك سطحي، أثبت فجأة أنه يمتلك بوصلةً أخلاقية ربما تكون أكثر حساسية مما تصوّر الجميع فحين رأى جيش الاحتلال يقتل بلا حسيب، ثم يشكو من صاروخ مضاد، ضحك ساخراً، وشعر للمرة الأولى أن معادلة القوة تمسّها يد مجهولة.
لم يكن الشباب الأمريكيون بحاجة إلى محاضرات نظرية عن الاستعمار والاستقواء. كان يكفيه صور الأطفال والأمهات ودمائهم الممزوجة بالتراب في غزة، وقصف جديد يُسمع صداه في قلب تل أبيب. ليعبر عن فرحته التي غمرت منصات التواصل لحظة القصف الإيراني للكيان. ويُدرك أن الصاروخ، في سياقه هذا، لم يكن مجرد أداة حرب، بل صرخة إنسانية وأخلاقية، في وجه عالم متوحش خان ضميره مراراً. وأن الرد الإيراني ليس أداة للدمار، كما كان يسوق سابقاً، بل عدالة في وجه آلة بطش استعمارية ولحظة تمثل عدالة رمزية وإدانة لما عجز العالم كله عن وقفه.
لم تتحدث منشورات تيك توك وسواه من المنصات عن البرنامج النووي الإيراني، ولا عن توازنات الشرق الأوسط، ومشاريع حكام الغرب فيه بل تحدثت عمّا هو أعمق: مشاعر وأحاسيس دفينة باختلال العالم، ولحظة شعورية أعادت له توازنه المعنوي ولو قليلاً.
ثمة وعي جماعي يتشكل، فقد بدأت الرواية الصهيونية بالتهاوي، ولم يعد بالإمكان تطويع الرأي العام الأمريكي خلف «إسرائيل» وعدوانها الدائم وسردياتها المتكررة لتبرير هذا العدوان كما حدث في النصف الثاني من القرن الماضي. فاليوم لا يمكن التعامل مع الرأي العام الغربي بالطريقة القديمة نفسها، عندما كان السياسيون في واشنطن يكرّرون شعارات فارغة عن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، و«تهديد إيران النووي». اليوم تتحدث الفيديوهات بلغة أخرى: مجازر، دماء، أشلاء، ومستشفيات تُدمّر بمن فيها. ولم تعد «إسرائيل» تبدو «دولة» ضحية، بل آلة بطش متغطرسة، تمتلك ترسانة غير متكافئة، وتقتل بلا محاسبة. وبدأت الحصانة النفسية التي كانت تحميها إعلامياً بالتآكل.
كسر الهيمنة والقوالب القديمة
لقد بدأ الجيل الذي نشأ في ظل الهيمنة الغربية، وتربّى على الإعلام الموجَّه، بكسر القوالب ومحاولة رؤية الحقائق بعيون جديدة ومن خلال هاتفه، وليس من خلال نشرات الأخبار. فيديوهات الشباب الأميركيين أعادت أيضاً طرح أسئلة جادة حول النووي الإسرائيلي الخارج عن كل رقابة وسيطرة، وكيف يكون مسموحاً به ل«إسرائيل» وممنوعاً عن غيرها. التهكم طال كذلك القبة الحديدية وأنظمة الدفاع الجوية «الإسرائيلية» المتمركزة بين بيوت «المدنيين» في تل أبيب، في إشارة واضحة إلى الدعاية «الإسرائيلية» التي مارستها مع لبنان وفلسطين بالادعاء بوجود صواريخ وأسلحة بين بيوت المدنيين لتبرير قصفها. لم تكن صواريخ إيران هي ما دوّى فقط، بل ارتجاج وعي ينشأ، ورواية تتغيّر وموقف سياسي متقدم، ولو أنه غير ناضج بما فيه الكفاية، في الضفة الأخرى من العالم. إنها لحظة فارقة، ليست لأنها قلبت موازين القوى فقط، وأحدثت صدمة بفعل غير مسبوق في تاريخ الكيان الصهيوني وإمكانية الرد عليه، بل لأنها أيضاً كشفت أنّ الكذب لم يعد قادراً على الاستمرار وتكميم العيون القلوب.
هذا الفرح الأمريكي الشعبي، العفوي، الصاخب في بعض الأحيان بالقصف الذي جاء نيابة عن كل أمّ لم تجد من يسمع صراخها، وعن كل شهيد لم تعرف هويته تحت الركام. لذلك كان فرحاً صادقاً، مباشراً، غير معقّد، وخالياً من الحسابات السياسية المعتادة، صادراً عن شاب لم يمارس السياسة بشكلها التقليدي لكنه شاهد الحقيقة، وقرّر أن يفرح لها، ولو مرّة، وأن يضحك من خلف شاشته في وجه الدعاية القديمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1233