حرب أوكرانيا - تاريخ استغلال الولايات المتحدة لتصدعات النظام السوفيتي السابق
(بقلم توماس آي بالي)* (بقلم توماس آي بالي)*

حرب أوكرانيا - تاريخ استغلال الولايات المتحدة لتصدعات النظام السوفيتي السابق

أُعِدَّت هذه الورقة البحثية وقُدِّمت في مؤتمر عُقِد في تبليسي، جورجيا، في 11 تشرين الأول 2024. نُظِّم المؤتمر من قِبَل منصة الأبحاث: التعليم من أجل التنمية والاستقرار، وبرعاية مؤسسة شوتا روستافيلي الوطنية للعلوم في جورجيا.

ترجمة قاسيون بتصرف

عزَزت الحرب الدائرة بين أوكرانيا وروسيا عوامل داخلية وخارجية. تُشكِّل هذه العوامل شفرتي مقص، ويتطلب تفسير الصراع أخذ كلتا الشفرتين في الاعتبار. تُركِّز العوامل الخارجية على الاستراتيجية الجيوسياسية الأمريكية بعد الحرب الباردة، وما صاحبها من توسُّع شرقي لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) برعاية الولايات المتحدة. لا يُمكن فهم هذا التوسع إلا بالرجوع إلى التصدعات (العوامل الداخلية) التي أحدثها تفكك الاتحاد السوفيتي. تكشف العوامل الخارجية عن دور الولايات المتحدة، المتورطة لدرجة إثارة الصراع وعرقلة السلام.
تتدخل العوامل الخارجية والداخلية في لحظات مختلفة، وتستغرق وقتاً حتى تُؤتي ثمارها بالكامل، وهذا هو سبب أهمية التاريخ لفهم الصراع. تتجلى مجموعتا العوامل على مدار جدول زمني يتضمن ثلاثة أحداث رئيسية. الأول، هو إعلان أوكرانيا استقلالها عن الاتحاد السوفيتي في آب 1991. والثاني هو انقلاب الميدان في شباط 2014 الذي أطاح بالرئيس الأوكراني المنتخب ديمقراطياً فيكتور يانوكوفيتش، الذي دعا إلى الحكم الذاتي الأوكراني وسياسة دفاع غير منحازة. والثالث هو العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، التي بدأت في 24 شباط 2022. هذا الجدول الزمني يكشف الكثير. ترى الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو أن الصراع بدأ في شباط 2022 (على الرغم من أنهم يقولون أحياناً إنه بدأ عندما «غزت» روسيا أوكرانيا لأول مرة بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 - وهو حدث أعقب الانقلاب)، مما يمكنهم من تجاهل التاريخ. تنظر روسيا إلى الصراع، بشكل أكثر صراحة، على أنه بدأ مع انقلاب شباط 2014، مما يجعل التاريخ وبداية الحرب الأهلية في أوكرانيا محورية لموقفها السياسي. إن هذا الاختلاف الجوهري في الفهم يعيق إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية تفاوضية، ومن الصعب للغاية أن نرى كيف يمكن التوفيق بين هذا الاختلاف، لأن المحاسبة للتاريخ (أي الانقلاب والحرب الأهلية التي تلته) تؤدي إلى سرد مختلف تماماً.

الإطار النظري: مقص الصراع ذو شفرتين

1. الشفرة الداخلية:
- انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 خلَّف ثلاثة تصدعات رئيسية:
- العداءات القومية: إحياء الحركات الفاشية في أوكرانيا (خاصة جماعة «ستيبان بانديرا» المتعاونة مع النازية)، والتي تم تمويلها من قبل المخابرات البريطانية (MI6) والـ(CIA) بعد الحرب العالمية الثانية.
- السكان الروس: 22.1% من سكان أوكرانيا عام 1989، متركزين في الشرق والجنوب، مما خلق انقساماً سياسياً تجلى في انتخابات 2010 (شرق موالٍ «لـيانوكوفيتش» وغرب مؤيد «لتيموشينكو»).
- الأراضي المتنازع عليها: مثل القرم وحوض دونباس، التي ضُمت تاريخياً إلى أوكرانيا في 1922 و1954.

2. الشفرة الخارجية:
- توسع حلف الناتو شرقاً بقيادة الولايات المتحدة عبر ثلاث مراحل:
- 1999 (بولندا والمجر).
- 2004 (دول البلطيق).
- محاولات ضم أوكرانيا وجورجيا (2008-2014).
- التدخل الأمريكي المباشر في أوكرانيا، عبر إنفاق 5 مليارات دولار على «بناء الديمقراطية» عبر الـ(USAID).
ودعم انقلاب الميدان 2014 الذي أطاح بالرئيس المنتخب «يانوكوفيتش» (مسجل في مكالمة مسربة «لـفيكتوريا نولاند»: «فليذهب الاتحاد الأوروبي للجحيم!»).

الأسباب الجيوسياسية العميقة

- العقيدة المحافظة الجديدة (Neoconservatism): تطبيق استراتيجية «زيغنيو بريجينسكي» في كتابه «رقعة الشطرنج العظمى» (1997)، التي ترى أن فصل أوكرانيا عن روسيا يُضعف الأخيرة ويمنعها من أن تكون إمبراطورية أوراسية.
- مخطط تقسيم روسيا إلى ثلاث كيانات (أوروبية، سيبيرية، شرقية) لتحقيق الهيمنة الأمريكية.
- دور المجمع الصناعي العسكري: لخلق «حرب دائمة» لضمان استمرار الإنفاق العسكري بعد انتهاء الحرب الباردة، حيث أصبحت أوكرانيا «بيدقاً تضحوياً» في هذه الاستراتيجية.

نقاط التحول التاريخية

1. 1994: احتجاج الرئيس الروسي «ييلتسين» على توسع الناتو في لقاء مع «كلينتون»، مؤكداً أن ذلك يهدد الأمن القومي الروسي.
2. 2014: الانقلاب المدعوم أمريكياً أدى إلى انفصال القرم (باستفتاء) واندلاع الحرب الأهلية في دونباس. واتفاقيات «مينسك» للسلام (2014-2021) فشلت بسبب النوايا السيئة للغرب (كما اعترفت «ميركل» لاحقاً بأنها كانت لتسليح أوكرانيا).
3. 2022: التدخل الروسي جاء رداً على: إصرار الناتو على ضم أوكرانيا (البند 69 في إعلان بروكسل 2021). وتخطيط أوكرانيا لهجوم عسكري على دونباس بدعم أمريكي.

النتائج والتداعيات

- على مستوى أوكرانيا: دمار البنية التحتية، نزوح 10 ملايين، سيطرة القوميين المتطرفين (كتيبة «أزوف» ذات الخلفية النازية).
- على مستوى روسيا: تحقيق أمني (تحييد تهديد الناتو)، لكن بعزلة اقتصادية.
- على مستوى أوروبا: خسائر من فقدان الطاقة الروسية الرخيصة وتدفق اللاجئين.
- على مستوى الولايات المتحدة: الرابح الأكبر عبر تصدير الغاز لأوروبا بأسعار مرتفعة، وتعزيز الهيمنة الجيوسياسية.

لِمَ السلام مستحيل؟

بسبب رفض الغرب التنازلات التاريخية (توسع الناتو، وضع أوكرانيا المحايد). وتحكم القوميين الأوكرانيين (المدعومين أمريكياً) في القرار السياسي والعسكري، مع شعار «القَتْل حتى آخر أوكراني». واستمرار الحرب يخدم المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، مما يجعل التسوية السياسية بعيدة المنال.
يقول توماس بالي: «أصبحت أوكرانيا بيدقاً تضحوياً في مشروع الهيمنة العالمية الأمريكية، بينما تحول الصراع إلى حرب بالوكالة تستنزف روسيا وأوروبا معاً».
في هذه المقالة، استكشفتُ الأسباب العميقة لحرب أوكرانيا، وجادلتُ بأن للحرب أسباباً داخلية وخارجية. تتجذر الأسباب الداخلية في كيفية تفكك الاتحاد السوفيتي. أما الأسباب الخارجية فتتعلق بكيفية استغلال الولايات المتحدة للشروخ في نظام ما بعد الاتحاد السوفيتي لتعزيز أجندتها المحافظة الجديدة الهادفة إلى ترسيخ الهيمنة الأمريكية العالمية.
لقد دمرت الحرب أوكرانيا. فقد دمرت أساسها الاقتصادي، وأدت إلى نزوح جماعي للسكان، وتسببت في مقتل عشرات الآلاف، وعززت قبضة القومية الفاشية على السلطة السياسية والعسكرية. وبمساعدة الولايات المتحدة، سيطر القوميون الأوكرانيون على السياسة الأوكرانية ورفضوا التنازل عن الواقع السياسي والديموغرافي المعقد لأوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفيتي. وبذلك، جعلوا من أوكرانيا بيدقاً للتضحية في مشروع الولايات المتحدة الساعي إلى الهيمنة العالمية، مع عواقب وخيمة قد تتفاقم أكثر. كما دعمت أوروبا هذه الحماقة بتكلفة باهظة.

* خبير اقتصادي سابق في لجنة مراجعة الأمن بين الولايات المتحدة والصين

معلومات إضافية

العدد رقم:
1231