تفكك مجتمع الاحتلال «الإسرائيلي» خاتمة طبيعية لجوهره الاستعماري الفاشي
في خضم الأزمات والحروب، تتجلّى بعض أهم سمات ما وصفه غرامشي بـ«النواة الثقافية» للمجتمع، فتظهر المجتمعات إم قدرتها على التلاحم والتضامن أو، على العكس، تعرضها للتفكك الاجتماعي. في حالة «إسرائيل» خصوصاً، بوصفها مجتمعاً لم يتطوّر بشكل طبيعي كما تتطور بقية المجتمعات البشرية التي لها حد أدنى من الوحدة التاريخية والجغرافية والثقافية والتقاليد والرموز وما يمكن أن نسميه روحاً واحداً لشعب، فإنّ «إسرائيل» من الناحية البشرية هي جماعة خاصة أكثر منها «مجتمعاً» بالمعنى العادي للكلمة، إنها جماعة بشرية مصطنعة قسرياً بتجميع فئات اجتماعية اقتلعت وهُجِّرَت/هاجرت من عدد كبير من البلدان شرقاً وغرباً بكل ما تحمله من تناقضات وتنافرات، ولا يجمعها سوى مشروع الاعتداء ومنطق العصابة الإجرامية التي تسطو على أرض وثروات غيرها.
مع العدوان «الإسرائيلي» المتواصل حالياً على إيران منذ 13 من حزيران، وابتداء الردّ الإيراني سريعاً بعد ساعات، تتعرض هذه الجماعة/المجتمع من المستوطنين المحتلّين، إلى صدمة كبيرة وغير مسبوقة في تاريخها، لأنّ حجم الدمار والخسائر البشرية هذه المرة أكثف وأسرع من أيّ لحظة سابقة، جراء الهجوم الإيراني واسع النطاق على «إسرائيل» باستخدام الصواريخ والطائرات دون طيار، كرد على الاعتداء الذي بدأه الكيان مستهدفاً مواقع نووية إيرانية وقيادات عسكرية وعلماء ومدنيين.
أدى هذا الهجوم الإيراني الصاعق إلى وقوع إصابات وخسائر، وفرضت سلطات الاحتلال إجراءات طارئة مثل إغلاق المدارس، حظر التجمعات الكبيرة، واستدعاء الآلاف من جنود الاحتياط. كما شهدت الأسواق ازدحاماً نتيجة تخزين المواطنين للمواد الغذائية والمياه، مما يعكس حالة الاضطراب الشديد.
يبرز السؤال حول مدى تماسك المجتمع «الإسرائيلي» وقدرته على تعاونه الداخلي في مواجهة الكوارث. تاريخياً، مرت جماعة المحتلّين هذه بأزمات عديدة، سواء كانت حروباً أو هجمات، مثل حرب 1967، حرب أكتوبر 1973، أو الصراعات المستمرة مع الفلسطينيين ومقاومتهم الشعبية. في هذه السياقات، غالباً ما اعتمدت جماعة المحتلين على قدرتها على التعبئة السريعة بالمعنى العسكري بالدرجة الأولى بوصفها على العموم بعسكرييها و«مدنييها» يصح فيها القول الشائع هم عبارة عن جيش له «دولة» وليس دولة لها جيش، وبوصف هذه الجماعة المسلحة بشكل أو بآخر هم الأحفاد القريبون لعصابات مثل الهاغانا وشتيرن وغيرهم من القتلة المؤسسين الأوائل لـ«إسرائيل» ككيان احتلالي إحلالي وإباديّ وفاشيّ. ولهذا نجد أن الرابط «العسكري» الأساسي بين هذه الجماعة/الثكنة يبقى أضعف من أن يؤمن ما يكفي من التماسك لـ«مجتمع طبيعي»، هذا فضلاً عن الانقسامات الداخلية والتاريخية، سواء بين اليهود الشرقيين والغربيين، أو بين العلمانيين والمتدينين، إضافة إلى الانقسام الطبقي العام، وتظهر مفاعيل هذه التناقضات في أوقات الضغط والأزمات.
التفكك في المجتمعات الاستعمارية
في مسألة تفكك المجتمع «الإسرائيلي»، يجب أن ننظر إلى الدراسات النفسية والاجتماعية التي ناقشت ديناميكيات المجتمعات الاستعمارية، حيث تحقق «إسرائيل» صفة الكيان الاستعماري بسبب سياسات الاستيطان في الأراضي الفلسطينية. وتشير الأبحاث إلى أن المجتمعات الاستعمارية غالباً ما تعاني من تفكك اجتماعي نتيجة فرض ثقافات وأنظمة أجنبية على السكان الأصليين أو على المجتمعات المستعمِرة نفسها. هذا التفكك قد يظهر في صورة فقدان الهوية الثقافية، واضطرابات الصحة العقلية، أو انعدام الثقة بين أفراد المجتمع.
على سبيل المثال، تشير دراسات إلى أن الاستعمار يؤدي إلى تآكل الهوية الجماعية، حيث يصبح المجتمع المستعمِر في حالة من الصراع الداخلي، والمشكلة هنا أعمق من «الحفاظ على هوية» إنها مشكلة أنّه لا توجد هويّة قومية تقليدية كالتي ساعدت بتشكل الدول القومية في التاريخ، ولا حتى دولة متعددة القوميات، بسبب العنصرية التي لا تقتصر على ممارسة المحتلين لها ضد الفلسطينيين، بل وممارسة العنصرية فيما بين فئات «الإسرائيليين» فيما بين بعضهم بعضاً. فلنأخذ مثالاً أنّه خلال تطورات الصراع الأخيرة مما بعد «طوفان الأقصى» خصوصاً، ونتيجة لبروز حاجة هذا المجتمع الاحتلالي إلى الهروب والاختباء في الملاجئ كما لم يعتد عليه من قبل، برزت احتجاجات شرائح من المستوطنين الذي يبدو أنّ «دولتهم» تصنّفهم عنصرياً في مرتبة أدنى من باقي مستوطنيها، حول النقص في الملاجئ في مناطقهم مثلاً، أو التأخر في الإغاثة والتمييز في الحماية بين المناطق المختلفة، وما إلى ذلك. وهكذا يساهم الضغط الخارجي في تعميق الخلافات الداخلية بدلاً من توحيد «مجتمعهم».
«إسرائيل» كاستعمار استيطاني تعاني توترات داخلية، حيث يعيش المجتمع «الإسرائيلي» في حالة من القلق المستمر بشأن الأمن والشرعية أيضاً، وسط تآكل مستمر لقدرة المشاعر الدينية اليهودية والأساطير على لعب دور الرابط الكافي، وسط الشعور بالعزلة أو عدم الثقة بين الفئات المختلفة داخل المجتمع.
التفكك الاجتماعي وسمات الفاشية
يمكن أن يرتبط التفكك الاجتماعي في المجتمعات الاستعمارية بسمات الفاشية أو النازية، ولا سيما أن الأمر هنا يحمل خصوصية في طريقة التركيز على العدو الخارجي سعياً إلى تعزيز مصطنع للوحدة الداخلية، فالمشكلة هنا أنّها نمط خاص تماماً من التناقض بين الـ«نحن» والـ«هم»، نمط معاكس تماماً لهذا التناقض نفسه لدى الفلسطينيين مثلاً كشعب مُضطَهَد وتحت الاحتلال، إنّ الفرق كبير جداً بين أن توحدك مع جماعتك مشاعر التعرض للظلم، وبين أن توحدك معهم مشاعر الحفاظ على المكتسبات التي نلتها بشكلٍ غير شرعي لأنك وجماعتك ظالمون! كلّ شيء يتغير معنوياً ونفسياً آنذاك، لن تمتلك الجماعة التي يوحّدها ممارسة الظلم على غيرها تلك الروح الكفاحية والنضالية والتضحية التي تملكها الجماعة المظلومة. هذا لوحده من أبرز الاختلافات الجذرية بين النواة الثقافية لمجتمع المحتلّين والنواة الثقافية لمجتمع التحرر الوطني، لمجتمع الشعب الفلسطيني.
في حالة «إسرائيل»، قد يُنظر إلى الصراعات المستمرة مع الدول المجاورة أو الفلسطينيين كمحفز لخلق هوية جماعية تعتمد على مواجهة «الآخر». لكن هذه الاستراتيجية، قد تؤدي إلى تعميق الانقسامات الداخلية، والمفارقة أن هذا يمكن أن يحدث سواء عندما يتلاشى التهديد الخارجي، أو عندما يشتد بطريقة تؤدي إلى فشل الكيان في تحقيق أمنه المنشود.
على سبيل المثال، تشير دراسات إلى أن المجتمعات التي تعتمد على العسكرة المفرطة أو الخطاب القومي المتطرف أنها قد تعاني من ضعف في التماسك الاجتماعي على المدى الطويل، حيث تصبح «الهوية» مرتبطة بالصراع بدلاً من القيم المشتركة. في «إسرائيل»، يمكن أن يظهر هذا في التوترات بين الأحزاب السياسية، خاصة بين اليمين المتطرف والتيارات العلمانية أو الليبرالية، حيث تتصارع هذه الفصائل على تعريف «الهوية الإسرائيلية».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1230