عن حسنة الحريري
حسان ثابت حسان ثابت

عن حسنة الحريري

تقول السيّدة حسنة ابنة درعا في رسالة صوتية مع محدثها من السويداء:
(يمّا يا عيوني مو كل الناس متل بعضها، بقلك في ناس مسخرين للفتنة، في ناس إلها مصلحة تضل الفتنة، ناس مأجوره، النظام البائد اشتغل ع الفتنة وما طلع بإيدوا هسع المأجورين يطلع بإيدهم؟ فشروا وخسوو)

وتضيف: (300عيلة من درعا دخلوا السويدا، ما واحد منهم سكن بخيمة، سكنوا ببيوت أهلهم، كنا ندخّل الجرحى وأهل السويدا خاطروا بحياتهم وعالجوهم انو كنتو سفينة نجاة لدرعا أنا اللي كنت أطلع كنت ألاقي السيارات محملة وجاهزة بالتموين والغاز وأدخلها إلى السويدا... لما تحاصرنا كانت السويدا هي الرئة التي تتنفس منها درعا... يا يما كد ما تغيّم الدنيا لا بد من طلوع الشمس الشعب السوري إيد وحدة ضد الفتنة نحنا أهل يمّا..)

وفي لقاء تلفزيوني سابق تحدثت حسنة الحريري وهي الملقبة بـ (خنساء حوران) بعد أن فقدت اثنين من أبنائها وزوجها وأزواج بناتها قضوا إما في معتقلات النظام أو في معارك ريف درعا) عن ذكرياتها في السجن وظروف اعتقالها، وقالت في سياق ذلك: كان معنا علويات ومسيحيات ودرزيات كنا من كل الطوائف السورية في سجن النسوان وذكرت بإن بعض من تعاطف معها من العساكر كانوا علويين، وإن أحد أكثرهم استفزازاً كان سنّياً.
بهذه التفاصيل وبهذه اللغة الحميمية تتحدث الأيقونة السورية حسنة الحريري عن علاقة السويداء بدرعا...

ما نريد لفت الانتباه إليه هنا أن هذا الخطاب العفوي، الذي يجمع بين الصدق والحكمة والاتزان والشعور بالمسؤولية، والمستمد من التجربة الحياتية الملموسة، المعطوفة على النزعة الدينية الشعبية هي مرآة تعكس الروح السورية العميقة، قبل أن تتلوث بأدران وسائل الإعلام وأجندات مموليها، والخوارزميات الموجهة وتريندات وسائل التواصل الاجتماعي، ودون تحذلق النخب السياسية والإعلامية والثقافية التي كانت وما زالت جزءاً من الأزمة.

النزوح كوجه آخر

عمليات التهجير والنزوح الداخلي في سورية هي الأخرى تكشف عن الوجه الآخر لسورية، الوجه الذي يجري إخفاؤه عمداً في التداول الإعلامي اليومي بما يعزز تلك السردية التي تدّعي أن السوريين مجرد طوائف وأعراق غير متجانسة... إن نزوح مئات الآلاف من أبناء محافظات حلب وإدلب والرقة ودير الزور إلى الساحل السوري، ومثلهم الذين نزحوا في القامشلي وحسكة وعامودا وديريك يفنّد تلك الادعاءات، ويكشف عن زيف تلك الصورة النمطية عن حجم التدليس الذي يفرض على السوريين فرضاً بقوة الدفق الإعلامي، ويؤكد على النزعة الإنسانية المتأصلة لدى عموم السوريين على عكس تلك الأقلية الضالة التي لا تكف عن بث السم الطائفي والعرقي ليلاً ونهاراً سواء كان عن جهل وانسياق مع السائد إعلامياً، أو كأجراء وأدوات تأجيج الصراع مدفوعي الأجر.

خصائص الثقافة الشعبية

الثقافة الشعبية ضمن الخصائص السورية ليست مجرد مظاهر فلكلورية، تتضمن العادات والتقاليد وطقوس المطبخ والأعراس والحرف اليدوية والموسيقا والأغاني وحكايا الجدات، وعلاقات التعاون والتضامن الاجتماعي على أساس الجيرة والقرابة، والروابط العائلية والأسرية والدينية، بل هي بالإضافة إلى ذلك نسيج حي، ومنظومة قيم، مطعّمة بالسياسة فرضتها الظروف التاريخية لتشكل الوعي الاجتماعي في سورية من معركة ميسلون والثورة السورية الكبرى وانتهاءً بسنوات الأزمة وما بينهما من انعطافات حادة في تاريخ سورية المعاصر... لا شك أن نمط الحياة الاستهلاكية، وتفشي النزعات الناتجة عنها، كالأنانية، والخلاص الفردي واللامبالاة تجاه الشأن العام، والعطالة السياسية وغيرها من التشوهات الحداثية المدينية النابعة من نمط الإنتاج الاجتماعي، وسلوك الطبقة الاجتماعية المهيمنة، بالإضافة إلى التسارع الجاري في العالم المعاصر والفجوة بين الأجيال قد حطمت الكثير من مكونات هذه الثقافة الشعبية المتوارثة، إلا أنها وكأي ثقافة شعبية تبقى كامنة، وتمتلك قوة الدفع الذاتي لكونها جزءاً من كينونة الفرد وعالمه الروحي، وتتحيّن الفرص لتظهر من جديد.

غياب الحوامل

ما يحزّ في النفس في هذا السياق، هو غياب حوامل تفعيل هذه الثقافة، وتعميمها في مبادرات على الأرض، في مواجهة خواء ثقافة الاستهلاك وطابعها العدمي، ولا تتم الإضاءة عليها كما هو مطلوب، حتى تبدو وكأنها غير موجودة أصلاً. في سورية آلاف مؤلفة من أمهات وآباء وشباب وصبايا من مدرسة حسنة الحريري هم ضمير سورية وقيامتها، وهم ما تبقى من أمل لديها في الوقت القليل المتبقي، فهي التي تنبذ الطائفية، وهي التي ترفع الصوت ضد الظلم، وضد الفتن، وهي التي تصر على وحدة السوريين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1229