فضيحة «الصمت المهني»

فضيحة «الصمت المهني»

فضيحة إعلامية جديدة بطلها هذه المرة مؤسسة إعلامية كبيرة هي BBC حيث طالبت أكثر من 600 شخصية فنية وعامة ببث وثائقي «غزة: المسعفون تحت القصف»، وقدموا عريضة مفتوحة لمناشدة المؤسسة التي قررت بأنّ ما يحدث في غزة «حسّاس جداً للبث»، وأجلت وثائقياً عن المسعفين الذين استُهدفوا وهم يحاولون إنقاذ الجرحى.

وناشدت الشخصيات الموقعة على العريضة ومن بينها الممثلة الأمريكية الحائزة جائزة أوسكار الناشطة السياسية البارزة سوزان ساراندون، والكاتب الإسكتلندي المعروف بسخريته السياسية اللاذعة فرانكي بويل، والممثلة البريطانية أوليفيا كوك مؤسسة BBC لبث وثائقي Gaza: Medics Under Fire (غزة: المسعفون تحت القصف) والتي تصور فيها مشاهد قتل المُسعفين في غزة. بحجة وجود مشاهد عنيفة لا تتوافق مع راحة المُشاهد.

يمكن للإعلام أن يكون أكثر رعباً من السلاح، فعندما تصبح المجازر «وجهة نظر» وعندما تقرر مؤسسة إعلامية بحجم BBC، لديها أرشيف يكفي لتوثيق قرن من الاستعمار، بكل برود بأنّ ما يحدث في غزة «حسّاس جداً للبث»، وتؤجل وثائقياً عن مسعفين استُهدفوا وهم يحاولون إنقاذ ما يمكن ومن بقي من مصابين وجرحى، يصبح التشكيك والسؤال حول حياد الإعلام الغربي واجباً. خاصة أن هذه المؤسسة أنتجت كماً هائلاً من الوثائقيات عن «تجارب الحرب» و«بطولة الجنود» و«أهوال الإرهاب...» لكنها تتوقف أمام ممرضة فلسطينية فقدت يدها بينما كانت تمسك بأنبوب الأوكسجين لطفل مصاب! يصبح السؤال محقاً حتى عند الجمهور الخاص الذي تعود تصديق كذب إعلام بلاده: هذا الوثائقي «حسّاس» تجاه مَن؟ من الذي يتأذّى فعلاً من رؤية المجزرة؟ الفلسطيني الذي يعيشها؟ أم الغرب الذي لا يريد أن تتّسخ شاشته بالواقع؟

يتقن الإعلام توزيع الذنب ويمحو الحدود بين المجرم والضحية تحت شعار «التوازن»، لا يرعب الوثائقي المؤجّل المؤسسة لأنه يحتوي صوراً مروعة، بل لأنّه ببساطة يُظهر ما لا يحتاج إلى تعليق: الوقائع كما هي لكنها هنا فضيحة تتحدث وتدين مجرماً بوضوح، لأن الضحية، عندما تتكلم، تُسكت كل أصحاب التحليلات الرمادية. أما الممرضة الفلسطينية فهي لا تنتمي إلى سردية الشجاعة الغربية، لأنها أيضاً ببساطة تُشبه الحقيقة أكثر من اللازم.

تجعل المؤسسة من عرض الوثائقي خياراً برامجياً مثل اختيار فيلم السهرة، وما يزيد الطين بلة هو أنّ بعض الإعلاميين ما زالوا يعتقدون أنّ «تأجيل العرض» هو إجراء مهني. بينما هو، في الواقع، إعدام ناعم للحقيقة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا ليس: لماذا لم تعرض BBC الفيلم؟ بل: ماذا كانت ستفعل لو كان الوثائقي عن مسعفين من مكان آخر؟ في مكان يرغب الإعلام الغربي بعرض الدم المسكوب للضحايا المختارين؟ هل كان سيُؤجل هو أيضاً؟ أم كان سيُعرض في بث حي، مع عبارات تمجد الوقوف مع الإنسانية؟ هكذا إعلام لا يطلب الحقيقة بقدر ما يطلب الأداء، والفلسطيني لا يموت بهدوء كما يريدون له لذلك فإنه يُقصى من السردية. إن ما يثير الرعب أكثر من عرض وثائقي يكشف المجازر هو الصمت «المهني».

لا تتعلق قضية وثائقي «بي. بي. سي» بالحقيقة فقط بل بالسياسة. إنها تظهر بوضوح كيف تتحوّل المؤسسات إلى أدوات للنفاق والتبرير لمن يملكها ويموّلها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1228