عندما تضع غزة روحها على كفها وتمشي

عندما تضع غزة روحها على كفها وتمشي

«ربما أعلن موتي الآن، قبل أن يشحن من يقف أمامي بندقيته وينتهي كل شيء وينتهي أنا» مطلع قصيدة الرجل الذي ارتدى عينيه للمصورة الصحافية الفلسطينية الشهيدة فاطمة حسونة.

يتساءل كثيرون حول القدرة العجيبة التي يتمتع بها الشعب الفلسطيني التي تتضمن إلى جانب القدرة على التحمل ومواصلة الحياة بظروف غير إنسانية وغير مسبوقة، قدرته على المقاومة والإبداع في مواجهة الموت والتفنن في ابتكار أشكال جديدة للحياة.

أعلن «مهرجان كان السينمائي الدولي» الذي سيقام في أيار المقبل أنّ فيلم «ضع روحك على كفّك وامش» للمخرجة سيبيده فارسي سيعرض ضمن تظاهرة «أسيد» في المهرجان. يتناول الفيلم الوثائقي المصوّرة الفلسطينية فاطمة حسونة (25 عاماً) التي استشهدت فجر الأربعاء 16 نيسان الجاري في غزة جرّاء قصف جيش الاحتلال واستهداف منزلها بصاروخ مع تسعة أفراد من عائلتها.

«عيون غزة»

رصدت فاطمة الملقبة بـ«عيون غزة» من خلال عدسة الكاميرا تفاصيل الحياة اليومية للناس في القطاع، وساهمت بتقديم مساعدات مختلفة إليهم. وكانت قد أنهت رسالة الوسائط المتعددة من الكلية الجامعية للعلوم التطبيقية للعام 2022، ورغم استشهاد11 فرداً من عائلتها في يوم واحد في كانون الثاني 2024 بصاروخ من صواريخ جيش الاحتلال إلا أنها استمرت في متابعة تصوير التفاصيل اليومية التي يعيشها الغزاويون، وعبّرت من خلال تدوينات قصيرة عن ظروف حياتهم فكانت عين غزة ونافذتها إلى العالم، هكذا وصفتها المخرجة الفرنسية من أصل إيراني سبيدة فارسي في حديث مع صحيفة ليبراسيون الفرنسية: «تعرفت على فاطمة بينما كنت أبحث عن وسيلة لدخول غزة، فصارت عيني هناك وصرت نافذتها على العالم، كنت أصورها عبر مكالمات الفيديو في ضحكها وبكائها وأحلامها وانكساراتها، ولم أكن أعرف إلى أين ستقودنا تلك اللقطات، لكن هكذا هي السينما، كما هي الحياة».

وأضافت: «في البداية لم أصدق الخبر، ظننته تشابه في الأسماء، اتصلت بها ثم أرسلت رسالة تلو الأخرى لكن لا رد، لقد غابت وبلمسة زر تم إطلاق صاروخ أزال منزلاً جديداً عن وجه غزة».

حكايات تشبه الخيال

وكانت المخرجة قد تواصلت مع المصورة الشهيدة قبل يوم من استشهادها. وجاء خبر اختيار الفيلم الوثائقي عنها في «مهرجان كان» (13-24 أيار) قبل ساعات فقط من استشهادها في الغارة «الإسرائيلية» التي دمّرت منزلها في حي الطفوة في غزة، وأسفرت عن استشهاد عشرات الفلسطينيين. تقول المخرجة، التي كانت لا تزال تحت وقع الصدمة مساء الأربعاء بأسى: «كانت قد بلغت 25 عاماً فقط في آذار الماضي».

قد يقول البعض أن قصة استشهاد فاطمة تشبه الحكايات الخيالية، ولكن قصة «عيون غزة» هذه والكثير من القصص الأخرى المشابهة المعروفة منها وغير المعروفة تجاوزت الخيال في حكايات الجدات وغرائبيّتها. تثير القصص الصادمة والقادمة من غزة وبطولات أبنائها لدى سامعها مشاعر متناقضة تبدأ بالشعور بنوع من العجز تجاه مأساة تجاوزت حدود العقل، وتنتهي بمشاعر الغضب وتحولاته نحو التضامن مع أهل غزة وناسها والرغبة في مشاركتهم قضيتهم.

مرة أخرى... الجائزة والمأساة

من جهة أخرى فازت صورة الطفل الفلسطيني محمود عجور بجائزة «أفضل صورة صحافية عالمية 2025»، يوم الخميس 17 نيسان الجاري، بعد أن اختارتها لجنة التحكيم من بين قرابة ستّين ألف صورة شاركت في النسخة الثامنة والستّين من مسابقة «وورلد برس فوتو» التي شارك فيها أكثر من 3700 مصوّر من 141 دولة.

وتُظهر الصورة التي التقطتها المصوّرة الفلسطينية سمر أبو العوف لصحيفة «ذا نيويورك تايمز» الأمريكية، الفتى ابن السنوات التسع وذراعاه مبتورتان، جرّاء أصابته بصاروخ «إسرائيلي» في آذار 2024، وتختصر اللقطة المؤثرة للفتى الفلسطيني، معاناة الفلسطينيين في حرب الإبادة الوحشية التي يرتكبها الاحتلال الصهيوني على مرأى ومسمع من العالم.

«كيف سأتمكّن من معانقتك؟»

يرفض الطفل الفلسطيني الاستسلام، ويبقى مصراً على حلمه بأن يصبح طياراً ذات يوم، وبينما تستمر لجنة التحكيم بالإشادة بـ«قوّة تركيب الصورة ودقّة إضاءتها»، مضيفةً أنّ «حلم محمود بسيط: يريد الحصول على أطراف اصطناعية وعيش حياة كأي طفل آخر». يؤكد الفتى الفلسطيني قائلاً: «سأجرّب كلّ شيء. سأكون طيّاراً في المستقبل. ألعب كرة القدم مع أصدقائي وإذا حصلت على يدين اصطناعيّتَين سأعود إلى اللعب كما في السابق، وأمسك الكرة بين يدَي».

من جهتها تؤكد مديرة الجائزة: «أن الصورة لا تمثّل الفتى محمود عجور فقط بل هي تختصر قضية أكبر تمثل العالم كله»، أما المصورة سمر أبو عوف والتي سبق لها أن وثقّت الكثير من أحوال الفلسطينيين في غزة جرّاء الاعتداءات الصهيونية المتواصلة، فقد ذكرت أنّه «من أصعب الأمور التي شرحتها لي والدة الطفل، كيف كانت أوّل جملة قالها لها عندما أدرك بتر ذراعيه: كيف سأتمكّن من معانقتك؟»، جملة مدهشة يقولها الفتى ببراءة لأمه، جملة مشحونة في ظاهرها بالمشاعر، ولكنها تضمر في العمق نوعاً من استفزاز مظاهر الموت وإظهار التعطش للحياة والرغبة فيها.

الصورة الأيقونة

تنشر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كل يوم المزيد من الأخبار والتحليلات التي تتناوب فيها طروحات عديدة ومختلفة تجاه الفلسطينيين وقضيتهم، ومن بين هذا كله تتميز قصص حرب الإبادة في غزة في إظهار ذلك التمايز الواضح بين اتجاهين وموقفين واضحَي المعالم، يظهر الأول فيه الوحشية اللامتناهية للاحتلال وتحوله إلى آلة للموت، بينما يلخص صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته حالة أسطورية للنضال البشري المتراكم ضد الموت والفناء. تكثف الصور فكرة صراع الحياة والموت هذه، وتختزن بداخلها قصص وحكايات أبطالها، وتنقلها وتوثقها فتتحول إلى شاهد صادق يشارك الناس البطولة بصمت.

من الذاكرة «طفلة النابالم»

للعام الثاني على التوالي تفوز فيه صورة من غزّة بهذه الجائزة، فقد فاز مصوّر وكالة «رويترز» محمّد سالم بالجائزة لعام 2024، لصورته التي تظهر فيها إيناس أبو معمّر (36 عاماً) وهي تبكي فيما تحتضن جثّة ابنة أخيها سالي (5 سنوات) المغطّاة بملاءة في مشرحة «مستشفى ناصر» في خان يونس جنوب غزّة.

يستعيد كثيرون ذكرى ثانية قادمة من حرب أخرى جرت في زمن سابق، لطفلة كانت تبلغ أيضاً تسع سنوات حينذاك، يقارنون هذه الصور مع صورة «طفلة النابالم» الشهيرة التي التُقطت عام 1972 خلال الحرب في فيتنام، صورة هزت وجدان العالم حينها. تتشارك غالبية هذه الصور إضافة إلى كون مضمونها وموضوعها المباشر واحد، في أن المتسبب في وجودها في العمق واحد، حتى وإن تخفّى خلف القوى التي يدعمها في المقدمة، وستكون نتائج نضال الناس فيها من أصحاب الحق واحدة من فيتنام إلى فلسطين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1224