في جدل التنوع والوحدة
التعدد القومي والديني والطائفي أحد خصائص سورية كدولة وشعب، فرضه مسار التطور التاريخي على هذه الجغرافيا خلال قرون، جرى الاشتغال على هذا التعدد بأكثر من اتجاه إشكالي منذ تشكل الدولة السورية الحديثة:
الأول: إنكار هذا التعدد، بكل ما يعنيه من مساس بالجانب الروحي من كينونة الإنسان، وصياغة سياسات على أساس هذا الانكار وصولاً إلى ممارسات التمييز الديني والقومي، أحدث صدمة في الوعي وتشويشاً في الانتماء.
الثاني: اعتبار هذا التنوع تناقضاً رئيسياً، وصولاً إلى إنكار وجود شعب سوري واحد، والتعاطي مع الاجتماع السوري على أساس المكونات، وما يستتبع ذلك من عدميّة وطنيّة موضوعياً على الأقل.
الثالث: تجاهل مسألة التعدد، واعتبارها مسألة ثانوية شكلية لاتستحق الاهتمام، يعكس وعياً قاصراً بالواقع الملموس، لايقدر أهمية ودور الثقافة كأحد مكونات الوعي دائم الحضور في البنى المدينية حديثة التكوين على أنقاض الاقتصاد الزراعي الريفي.
تمظهرت العلاقة بين هذه الاتجاهات على أنها نقائض، ولكن في حقيقة الأمر وبغض النظر عن تباين النوايا هي اتجاه واحد، على الأقل من جهة النتائج العملية، وتتخادم من حيث تدري أو لاتدري في تلويث الوعي الوطني السوري.
سياسة الإنكار أدت إلى استدراج ردود أفعال، تجلت في تصاعد الخطاب الانعزالي، وتنامي وزن الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية السورية الجامعة، أما التطنيش والتجاهل أدى إلى إرتباك حوامل النزعة الوطنية الجامعة ونوعاً من العجز في التعاطي مع مسألة التعدد في ظل المأزق التاريخي الراهن.
أحد أهم سمات التعدد في سورية وعموم دول تركة سايكس بيكو وتفاعلاتها، أنه عابر للحدود فتكاد لاتوجد جماعة طائفية أو دينية أو قومية في سورية دون أن يكون لها امتداد خارج الحدود، مما يجعلها دائماً أحد حوامل التجاذب الإقليمي والدولي، خصوصاً بعد تفسخ نموذج الدولة الوطنية على مذبح ثنائية القمع والفساد، وعجزها عن القيام بالحد الأدنى من مسؤوليتها.
الإقرار بالتعدد القومي والديني والطائفي ينبغي ألا يتحول إلى أداة لإلغاء حقيقة وجود شعب سوري واحد له تاريخ ومصير مشترك، وله قضية واحدة، على طريقة منابر الدجل الدعائي التي يتناوب عليها الطائفي والتلبرل المبتذل، وحواشي وبطانات أمراء الحرب...
التعددية السياسية
من يعود إلى تطور الحراك السياسي في سورية منذ بدء تفكك الإمبراطورية العثمانية سيجد أن الجمعيات والنوادي التي شكلت بواكير الوعي السياسي في سورية كانت ذات طابع تعددي عابر لما هو ديني وقومي.
وكذلك الأمر مع كل التحولات النوعية في التاريخ السوري الحديث:
الموقف من إنذار غورو بين إذعان الملك فيصل وبعض بطانته، وخروج يوسف العظمة ورفاقه إلى ميسلون كان الانقسام السياسي الأول على الرغم من أن الاثنين كانا من الانتماء الطائفي ذاته.
في الثورة السورية الكبرى عام 1925 ستتداعى الزعامات المحلية في سورية وتلبي نداء سلطان باشا الأطرش في جبل العرب إلى الوحدة ضد مشاريع الاحتلال الفرنسي في التفتيت، وسيحدث فرز سياسي حول الموقف من إقامة دويلات على أساس مذهبي أو طائفي أو عرقي.
الانقلابات المتتالية التي حدثت في سورية بعد الاستقلال، اتخذت شكلاً ومحتوى سياسياً وتعكس تناقضات القاع الاجتماعي، ومخاضات تحديد خيارات الدولة الناشئة.
خلال كل تلك المرحلة، الجهة الوحيدة التي حاولت ترسيخ الانقسام الطائفي والعرقي كان الاحتلال الفرنسي وبطانته، ومن وقف بوجه مشروعه ينتمون إلى مكونات سورية الطائفية والدينية والعرقية، بمعنى آخر تبلور مفهوم الشعب السوري تاريخياً والهوية الوطنية السورية من خلال صراع سياسي حاد، لاعلاقة له البتة بالانتماء الطائفي أو الديني، ومن هنا كان القول إن الظاهرة الطائفية حالة طارئة في سورية، وهي طائفية وظيفية مصنّعة ووافدة أكثر من أن تكون متأصلة.
إن شعباً يعتبر فارس الخوري أحد الآباء المؤسسين لدولته، وسلطان الاطرش قائداً لأهم ثورة في تاريخه، ويصوت لرياض المالكي ضد مصطفى السباعي في دمشق بكل رمزيتها في الانتخابات الأكثر ديمقراطية في تاريخ سورية، من الإجحاف والظلم وتزوير للتاريخ أن يوسم على أساس المكونات الطائفية والدينية.
تستطيع التعددية السياسية أن تحتوي التعدد القومي والديني والطائفي وتحل أو تحيّد التباينات الثانوية والهويات الفرعية، والعكس ليس صحيحاً، فالتعاطي مع الشأن السياسي على أساس الانتماءات التقليدية لا يحل أية مشكلة حلاً حقيقياً، عدا عن أنه سير باتجاه مخالف لحركة التاريخ.
الفراغ وغياب الرمز
تنامي دور النزعات التقليدية في جانب منه هو انعكاس لحالة الفراغ على المستوى الوطني، بعد تعفن جهاز الدولة، وفي ظل تهميش وتهشيم وعجز الحركة السياسية السورية والرموز الوطنية على مدى عقود، وهو ما أدى إلى غياب الحامل السياسي للوعي الوطني في سورية، القادر على تحويل هذا الوعي إلى فعل ملموس يقلب الطاولة على رؤوس زعامات الصدفة، التي فرضتها الأزمة وتداعياتها من عسكرة وتدخل خارجي...
حكاية من التاريخ
في عام 1957 حدث شاغر في البرلمان السوري، على خلفية اعتقال النائب منير العجلاني «القريب من تيار الإخوان المسلمين» بعد ثبوت ضلوعه في التخطيط لانقلاب عسكري برعاية أمريكية، تمهيداً لانضمام سورية إلى حلف بغداد، جرت انتخابات تكميلية لملء الشاغر، وتم ترشيح مصطفى السباعي وهو المراقب العام للجماعة، وعضو رابطة علماء الشام «تجمع لبعض الأئمة ورجال الدين» في حين اتفقت قوى سياسية أخرى على ترشيح الأستاذ عدنان المالكي ابن حي الشاغور، وجرت معركة انتخابية سياسية حامية الوطيس بين المرشحَين، تجاوز موضوع الفوز بكرسي في البرلمان إلى اختبار قوة حسب توصيف باتريك سيل، أي قياس الوزن السياسي والنفوذ الشعبي للتيارات السياسية في سورية.
قاد الإخوان المعركة على أنها معركة بين الإسلام والإلحاد، وحاولوا تحشيد الناس على هذا الاساس، مراهنين على دور ووزن الثقافة الدينية في المجتمع الدمشقي إلا إن هذا السيناريو لم يفلح، لا بل انقسمت المؤسسة الدينية على نفسها إذ استطاعت الأحزاب المؤيدة للمالكي إحداث فرز بين رجال الدين، حيث دعم قسم منهم انتخاب المالكي وساهموا بالدعاية له علناً في بعض المساجد، رغم ضغوط رابطة العلماء بكل ما كانت تمتلك من نفوذ وهيمنة على منابر المساجد في حينه، وفشل الإخوان في المعركة التي انتهت لصالح المالكي والتيارات السياسية الداعمة، مما أدى إلى انحسار نفوذ الإخوان فيما بعد، وهو ما ألقى بظلاله، على عموم المشهد السياسي السوري.. الطريف في الأمر وحسب مذكرات الحوراني أن غالبية حي القصاع الدمشقي صوتت لصالح السباعي في ظاهرة لها دلالات عميقة في التاريخ السوري... هذه الحادثة التاريخية ليست استثناء، بل هي تكثيف لكل التفاعلات السياسية في سورية في حينه، نستذكرها هنا ليس من باب الحنين إلى «الماضي الجميل» على طريقة قوى العطالة السياسية، التي ليس لديها شيء تفعله في الحاضر، بل لنؤكد بأن الصراع في سورية لم يكن يوماً من الأيام طائفياً أو دينياً، وأن معيار تقييم القوى السياسية ومعرفة وزنها هو انتخابات حقيقية لا التجييش الطائفي ولا قوة السلاح...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1224