«ليلة من الليالي العربية» لهوفمانستال: خير تعبير عن ذلك الكابوس السعيد

«ليلة من الليالي العربية» لهوفمانستال: خير تعبير عن ذلك الكابوس السعيد

بفضل مسرحيات مثل «أرابيلا» و «امرأة من دون ظل» و «فارس الوردة» و «الموت والمجنون» عُرف الكاتب النمسوي هوفمانستال، بصفته واحداً من أبرز كاتبي المسرحية الشعرية عند المرحلة الانعطافية الفاصلة بين القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

لكن المسرحية الشعرية لدى هذا الكاتب كانت تخفي في طياتها ما يبرر لاحقاً إطلاق اسم «الكابوس السعيد» على واقع الحال في النمسا - وفيينا خصوصاً - أي ذلك الحس الفني الباحث عبثاً عن المثل العليا الجمالية والإنسانية، في عالم يتدهور ويلاحظ المبدعون تدهوره من دون أن يمكنهم فعل شيء في هذا الخصوص. ولعل مسرحية «الموت والمجنون» هي التي تعبر عن هذا الواقع أكثر من أي مسرحية أخرى بين أعمال هوفمانستال حيث توضح لنا هذه المسرحية وفق الباحثتين باربارا باومان وبريجيتا أوبرله (في كتابهما «عصور الأدب الألماني» الصادر قبل سنوات في سلسلة «عالم المعرفة» الكويتية) «انعزال الإنسان الذي يتوق إلى الجمال والفن، عن العالم. فكلاوديو، هذا الأحمق، يدرك في النهاية أن الحاضر الذي يعيشه ما هو إلا تجسيد للموت، وأنه كان طوال الوقت ينتظر أن يحيا الحياة، لكنه لم يعشها على الإطلاق. أما بريق الحياة، فإنه اتضح له في الموت نفسه».

كل هذا في مناخ من القدرية يشبه ذاك الذي طبع معظم ما أُنتج في فيينا في ذلك الزمن. فالقدرية والإيمان بالموت كوجهين أساسيين للحياة، كانا سمة أساسية في حياة الفكر في فيينا في ذلك الحين. وما كان لهوفمانستال أن يرى غير ذلك. فهو الطابع الذي وسم كل أعماله... لكننا سنجده أوضح ما يكون، ليس في واحدة من مسرحياته الكثيرة (والتي كانت تحقق نجاحاً كبيراً كلما عرضت)، بل في رواية من رواياته مستقاة مباشرة من «ألف ليلة وليلة» وإن كانت أحداثها لا تدور في الشرق البعيد - القريب، أو تعبر عنه، بل في مكان شرقي غامض، يشير الكاتب بما يشبه الوضوح إلى أنه - في نهاية الأمر - ليس سوى النمسا نفسها.

تحمل الرواية اسم «حكاية الليلة الثانية والسبعين بعد الستمئة». و «التيمة» الأساسية في هذه الرواية، هي كما أشرنا تيمة «القدرية» التي تطبع في الليالي العربية معظم حكايات شهرزاد. وبطل هذه الرواية هو شاب ثري مثقف يعيش في بيت أورثه إياه أبوه في مدينة شرقية السمات. وهذا الشاب الذي يعيش بين الرفاه والكآبة في الوقت نفسه يخدمه ويحيط به أربعة أشخاص: خادمة عجوز جداً، ووصيف مخلص يقوم بعمله بكل نشاط، مع مسحة من الغموض تحيط بشخصيته، وصبية صغيرة تعيسة المظهر لا تكف عن إبداء العدوانية، وشابة حسناء تقوم بعملها كله ببطء شديد وحزن. والشاب وسط هذه الصحبة يمضي وقته بين الحلم والقراءة متأملاً حول هشاشة الشرط الإنساني. وهو يهتم خصوصاً بالفن وعلاقة الفن بالطبيعة. ويرى أن الفن إنما هو رمز حي لحقيقة لا يمكن أحداً أن يسبرها حقاً. ويعرف أن الموت سيزوره حين «ينتهي بناء البيت»، بل إنه يخيل إليه دائماً أنه يرى الموت زاحفاً نحو البيت حيث لديه فرائس عدة. لكن الشاب لا يهاب هذا الموت أبداً. ومع هذا تصله ذات يوم رسالة غامضة تحرك عزرائيل في اتجاه البيت حقاً. والرسالة المشوشة والوقحة تشير مرات عدة إلى جريمة اقترفها ذات يوم الوصيف المخلص. ويتلقى الشاب الرسالة فيما هو مقيم في منزله الصيفي، فتقلقه بعض الشيء وتدفعه إلى اتخاذ القرار بالتوجه يوماً إلى المدينة بحثاً عن معلومات ما. ذلك أن هذا الوصيف قبل أن يدخل في خدمته كان يعمل لدى سفير فارس، وهو هناك قابله وأعجب به ودعاه إلى العمل عنده. المهم أن صاحبنا يتوجه بالفعل إلى المدينة لكنه يُخبَر بأن السفير وعائلته غائبون ولن يعودوا سوى في الغد، لذلك يقرر أن يمضي ليلته في نزل. وقبل التوجه إلى ذلك النزل يقوم بجولة في شوارع المدينة وأزقتها. وهو بالتدرج يجد نفسه متورطاً في الأحياء الفقيرة للمدينة. ويرى نفسه هناك، وكأنما بفعل غير إرادي يسير في أزقة ضيقة، ويجتاز ساحات صغيرة تبدو له حيناً خالية من الناس، وأحياناً مملوءة بهم، لكنهم جميعاً حزانى وأشرار. وإذ يصل قرب بائع مجوهرات بائس يشتري عقداً تزينه جوهرة صغيرة، ذلك أنه وجد نفسه فجأة راغباً في أن يزين هذا العقد رقبة خادمته الشابة الحسناء. لكنه هناك وهو في دكان بائع المجوهرات، يحدث له أن يلقي نظرة من نافذة خلفية، ليرى حديقة ضيقة زرعت فيها نباتات وزهور رائعة الحسن. ويرضى البائع بأن يسمح له بدخول الحديقة... لكنه هناك لا يجد أحداً، فالجيران جميعاً خرجوا من منازلهم... وهذا ما يتيح لصاحبنا أن يغرق في تأملاته، وإذ هو غارق في هذه التأملات يجد نفسه فجأة في مواجهة صبية طفلة يثير مرآها في نفسه قلقاً غريباً وارتباكاً... ذلك أن وجه هذه الطفلة الشرير والكئيب يذكره على الفور بوجه خادمته الطفلة العدائية... خصوصاً أن الطفلة التي يراها هنا تعامله بالعدوانية نفسها، بل إنها، إذ يقترب منها، تدفعه بعيداً منها بحركة غاضبة. وإذ يحاول أن يعطيها بعض قطع النقود ترمي القطع أرضاً بحنق شديد. في تلك اللحظات كان المساء قد بدأ يقترب، والظلال تنتشر في المكان. وإذ تزداد تعاسة صاحبنا وقلقه، يجد نفسه وقد تمكن، من دون صعوبة، من مبارحة المكان عبر ثقب عريض في الجدار... لكنه سرعان ما يكتشف أنه لكي يصل إلى الشارع، سيكون عليه أن يعبر جسراً صغيراً مصنوعاً من قطعة خشب فاسد معلقة في الفراغ... ويعبر الهوة على ذلك الجسر ولكن بعد أن يحس بخطر شديد ويبذل جهداً كبيراً يهلكه. وما إن ينتهي من ذلك حتى يجد نفسه مرة أخرى يعبر الدهاليز والأزقة حتى يصل أخيراً، وبشق النفس، إلى ساحة صغيرة دائرية فيها مجموعة من جنود فرسان يقومون بأعمالهم: بعضهم يأتي بأرغفة الخبز والبعض يعتني بتضميد جروح الجياد... ويلاحظ صاحبنا أن الجياد قبيحة جداً، وذات سمات شديدة العدوانية، كما يلاحظ أن الفارس الأكثر حزناً وقبحاً يعتني بالجواد الأكثر عدوانية. ولسبب غير واضح يقترب صاحبنا من ذلك الفارس المقرفص أرضاً... إنه يريد أن يكلمه، يريد أن يقدم إليه هدية ما، غير أن التعبير الوحشي الذي يراه على وجه جواده يردعه ويدفعه إلى الابتعاد. لكنه يستجمع شجاعته وإرادته إثر ذلك ويعود إلى الدنو منحنياً فوق الجندي. وهنا يخبطه الجواد بقائمته خبطة قاتلة، فيسرع الجنود نحوه. وهم بعد أن يفرغوا جيوبه ينقلونه بكل هدوء إلى ثكنتهم، وهناك يضعونه فوق سرير يحتضر فوقه ساعة أو ساعتين، متأرجحاً بين الغيبوبة والحلم وبين الآلام المبرحة، قبل أن يسلم الروح مع هبوط الليل.

واضح هنا أن هوغو فون هوفمناستال، اقتبس من «ألف ليلة وليلة» في هذه الرواية الكئيبة، مفهوم القدرية والعلاقة مع الموت. فالبطل هنا، من دون مواقف درامية عنيفة، ومن دون تردد، لا يفعل سوى أنه يتبع مصيره وقدره، هو الذي كان يحس بإطلالة الموت عليه منذ البداية. لكنه إذ كان يرى أن هذا الموت ليس، بعد، مخوّلاً، أن يقترب منه، معتقداً أنه سيكون موت الآخرين... فإذا به موته الخاص. والحال أن كثراً من النقاد رأوا في هذه الرواية تنبؤاً من هوفمانستال بمصير النمسا، وطنه، نفسها... ولم يكونوا مخطئين في ذلك، طالما أن هذا الكاتب الذي عاش بين 1874 و1929، عاصر ذلك الزمن الذي كانت النمسا فيه تموت، معلنة موت فكرة معينة عن الإنسان وعن الفن وعن الحداثة. ومن المعروف أن هوفمانستال بدأ الكتابة والنشر وهو في السادسة عشرة حيث ظهرت له قصائد أثارت الإعجاب. وهو درس الحقوق والأدب الفرنسي واهتم بالآداب الإغريقية القديمة وبآداب العصور الوسطى وأسس مهرجانات مسرحية بالتعاون مع ماكس رينهاردت وريتشارد شتراوس.

 

المصدر: الحياة

آخر تعديل على الأربعاء, 11 حزيران/يونيو 2014 22:07