حديث الأجندات

حديث الأجندات

كثيراً ما يعلن بعض المتابعين لوسائل الإعلام أو المهتمين بالشأن العام :»هذه المحطة لها أجندة»!  كما لو أنهم يبوحون بسرٍ لا يعلمه أحدٌ غيرهم أو يكشفون معلومةً شديدة الأهمية. بالطبع هناك أجندة! بل الحقيقة أن وضع الأجندات يسبق تأسيس القنوات والمحطات، وما الوسيلة الإعلامية إلا ترجمةً مباشرة لمجموعة المصالح الاقتصادية والسياسية لأصحابها، من خلال تقديم منظور موحّد ومتجانس لتحليل الأخبار والمستجدات حول العالم بتوظيف المعلومات ومقاطع الفيديو وكلمات المحللين السياسيين..

فإن كانت الإجابة عن تساؤلات: «هل للوسائل الإعلامية أجندات تحكمها؟»، «وهل يؤثر تمويل القنوات على طبيعة تغطيتها للأحداث؟»، بديهية، يبقى السؤال الأعقد حول الكيفية التي تنفّذ بها تلك الوسائل أجنداتها وما حدود التأثير على جمهور المتابعيين؟

هناك اعتقاد سائد لدى الكثيرين بأن إدراكهم المسبق لتوجهات المحطة وتمويلها يقيد حدود تأثيرها على أرائهم ونظرتهم حول ما يحدث، وهو الأمر الذي يجعلهم يظنّون بأنهم قادرون على فصل الأخبار عن أجنداتها والنظر إلى الخبر بصورته الخام دون أية إضافات و»بهارات» إعلامية أخرى. لكن هل الأمر حقاً بهذه السهولة؟!

بالتأكيد إن القنوات المُمتلكة من جهات معلنة وواضحة تهيئ الجمهور للسياق الذي ستعرض الأخبار من خلاله، وتجعل ذهنه أكثر تحفّزاً للرسائل الضمنية التي قد تبثها، لكن ذلك لا يعني  أن إدراك أسماء الجّهات أو البلدان المالكة للقنوات يوقف حدود تأثيرها.

غالباً ما يجهل الناس أو يتجاهلون حقيقة الأثر التراكمي لوسائل الإعلام، بحيث يفقد المرء شيئاً فشيئاً دفاعاته الواعية تجاه المضمون المقّدم والجهات المالكة للقنوات، وتحديداً في الظروف الاستثنائية كالحروب والأزمات، حينما يكون الأفراد أكثر عرضة للتأثر وقبول المضمون المقدم دون تدقيقٍ كافٍ. إن إحدى أهم مشكلات الدراسات الإعلامية، تتجلى في كون أساليب التأثير التي تعتمدها وسائل الإعلام أو أنماط الاستمالات التي توظّفها، تبقى حبيسة الأبحاث الأكاديمية الجامدة، أو تُحتكر على أساس أنها من « أسرار الصنعة» الإعلامية، بحيث تظلُّ خفيّة على الجمهور المعني بها بالدرجة الأولى، خاصةً وأن فهمها يُؤمّن له درع حماية أمام الدفق الهائل من المعلومات  الذي تبثه وسائل الإعلام كل يوم.

قد لا يدرك الأفراد أن الأجنّدات العريضة تُترجم من خلال: مجموعة من المصطلحات الخاصة بكل وسيلة، والآلية التي يتم فيها ترتيب الأخبار في النشرة – والأهم من ذلك الأخبار التي تُستثنى من النشرة على اعتبارها غير ذات أهمية- ، إلى جانب أساليب الضغط العاطفي، من خلال توظيف صور النساء والأطفال أوالتركيز على الغرائز البشرية، إضافةً إلى  الجهات أو الأشخاص الذين يلامون أو يُكافؤون من قبل وسائل الإعلام على اعتبارهم أبطالاً أو أعداءً .. وغير ذلك الكثير من التفاصيل التي قد تغيب عن ذهن المشاهد.

في ظل ما سبق، قد يظن المرء بألا شيء يمكن القيام به ليحمي نفسه من تأثيرات الإعلام،  وأنه ضحيّة قنوات مفترسة تمتلك قدرات خارقة على تنويمه مغناطيسياً، أو تحريكه كما تشاء!

إلا أن الأمر بالتأكيد ليس كذلك، ومن يحاول أن يسوق لهذا الاتجاه أو يتبناه بتضخيم دور وسائل الإعلام، يستهين بقدرات الأفراد على المحاكمة والتفكير، ويغفل جميع العناصر الموضوعية والحياتية التي تؤثر في آراء الناس وقناعاتهم.

يبقى السؤال ماذا بإمكان الناس أن يفعلوا ليحدوا من تأثيرات وسائل الإعلام ويتحكموا بالعلاقة مع قنوات الاتصال؟

بالتأكيد لايمكن المرء أن يمتنع عن التعرض لوسائل الإعلام، لكنه يستطيع اتخاذ خطوات واعية بـ»مقاطعة» بعض المحطات أو القنوات التي يتيقن من رفضه لأجندتها «المعلنة» على أقل تقدير. والأهم من ذلك - والأكثر فاعلية ربما-  أن يحاول المرء خلق نوع من التوازن من خلال الإطّلاع على عدد من القنوات ذات الاتجاهات المختلفة بحيث يضمن أكبر قدر ممكن من التنوع. ولا يعنى بالتنوع هنا، الانتقال من قناة تلفزيونية إلى أخرى عبر جهاز التحكم بحركة وسواسية لا تنتهي. وإنما التوقف عن النظر إلى التلفاز - أو مؤخراً صفحات مواقع التواصل الاجتماعي-  كمصدرٍ وحيد للمعلومات، وإنما الاعتماد أيضاً على الإذاعة و الصحافة المكتوبة و الكتب التي تقدم التحليلات والأفكار والخلفيات المعلوماتية، بحيث تخاطب أذهان القراء  وتساعدهم على تكوين صورة أكثر موضوعيةً وعقلانية، بعيداً عن الدفق الهائل من الصور المؤلمة والتصريحات النّارية، والصراخ الدائم الذي تقذفه القنوات الفضائية كل يوم.