«كما تريدها» لشكسبير: نهايات سعيدة لمقاومة كآبة الطاعون

«كما تريدها» لشكسبير: نهايات سعيدة لمقاومة كآبة الطاعون

«العالم مسرح كبير، كل الرجال والنساء الذين يعيشون فيه ممثلون... يدخلون ويخرجون طوال الوقت. وكل فرد يلعب، في وقته أدواراً كثيرة...». هذه العبارة، كما هو واضح ومعروف، شكسبيرية بامتياز، يمكن أياً كان أن يدرك بسرعة شكسبيريتها.

ولكنّ كثراً من الذين يعرفون أجزاءها ويرددونها يحارون حين يُسألون في أي مسرحية لشكسبير ترد. والجواب انها واحدة من العبارات التي يتلفظ بها جاك احدى الشخصيات الأساسية في مسرحية «كما تريدها» لشاعر الانكليز الأكبر. 

ومع هذا، فإن هذه المسرحية، على رغم امتلائها بالشخصيات وبالعبارات المأثورة، لا تعتبر من أعمال شكسبير الأساسية، حتى وإن كانت كوميدياه التي تقدم أكثر من أي كوميديا أخرى له. ولكنها لا تقدّم بفضل عمقها، بل بفضل طرافتها وتشابك أحداثها وشخصياتها. من ناحية الجودة، ثمة دائماً نقاش واسع بين النقاد والكتّاب، إذ فيما رآها نقاد متخصصون مميزة وتنتمي تماماً، أخلاقياً وفنياً، الى الزمن الذي ظهرت فيه للمرة الأولى - الأعوام الأخيرة من القرن السادس عشر - رأى غيرهم أنها لا تليق بصاحب «هاملت» و «تاجر البندقية» و «روميو وجولييت». 

ومن بين أصحاب المآخذ على «كما تريدها»، يبرز تولستوي- الذي لام شكسبير على لا أخلاقية أبطال المسرحية-، وخصوصاً جورج برنارد شو، الذي أفتى في الأمر فتوى طريفة. فشو قال إن شكسبير كما يبدو، ألّف هذه المسرحية على عجل كي تقدم في مناسبة معينة سريعة. وهو- أي شكسبير- للتشديد على هذا، أعطاها عنواناً فيه كل ضروب التبرير «كما تريدها»، وكأنه يقول للسيد الذي طلب منه كتابتها وتقديمها انه كتبها كما يريدها هذا الطالب، الذي هو- كالعادة- من الخاصية الملكية. ومع هذا، مهما كان رأي النقاد، وحقيقة اشتغال شكسبير على هذا العمل، فإن ما يحسب له هو أنه عاش كعمل مميز، وأضحك متفرجي المسرح طوال قرون وقرون، حتى وإن كان شكسبير قد كتب المسرحية كي تقدَّم في مناسبة معينة وربما تُنسى سريعاً بعد ذلك.

لم تُنس «كما تريدها» بالطبع، بل عاشت. وفي كل زمن يأتي يعاد تفسيرها من جديد وتوجد لها فضائل تكون قد فاتت السابقين، بحيث يمكن القول إن من بين كوميديات شكسبير جميعاً، تتمتع «كما تريدها» بأكبر مكتبة دراسية على الاطلاق. بل لا بدّ من أن نذكر أن معاصرينا من باحثي شؤون «الجندر» يهتمون بهذه المسرحية أكثر من اهتمامهم بأية مسرحية أخرى لشكسبير، بسبب ما فيها من تزيّن لنساء بزي الرجال، ولعب على هذه الأمور كجزء أساس من موضوع المسرحية وحبكتها.

من المفروض، نظرياً، أن أحداث «كما تريدها» تدور، في دوقية فرنسية، وتحديداً في - وَحَوْل - مكان يدعى «غابة آردن»، غير أن هذا الحيز الجغرافي المحدد حيّر الباحثين طويلاً. ذلك أن ثمة غابة تقع غير بعيد من بيت شكسبير في ستراتفورد تحمل الإسم نفسه، كما أن أم شكسبير كانت من آل آردن. وفي المقابل، افترض باحثون أن كلمة «آردن» هنا هي تحريف لاسم منطقة الآردين البلجيكية المتاخمة لفرنسا. وهناك فرضية ثالثة - هي المرجّحة عادة - تقول إن اسم «آردن» مأخوذ هنا من مزج بين كلمتين «آركاديا» و «إدن» (أي عدن). ويبدو أن شكسبير نفسه إنما شاء أن تكون كل هذه الفرضيات حاضرة، أولاً على سبيل الترميز، وبعد ذلك بغية اعطاء الحبكة شمولية انسانية ما. لكن الأهم هو أن الشخصيات وأخلاقياتها تبدو فرنسية غالباً، انما من دون أن نصل بهذا الى أن شكسبير استقى موضوعه من حكاية فرنسية معينة أو من تاريخ حصل فعلاً. فالحبكة لا تحتمل هذا، خصوصاً انها تبدو وبعد كل شيء، مرتجلة ومفتعلة.

تبدأ أحداث «كما تريدها» بالدوق فردريك وقد استولى على دوقية أخيه الدوق الكبير وطرده، فلجأ هذا مع أنصاره الى غابة آردن التي باتت تشكل منفى له ولهم. من بين كل آل الدوق الكبير، وحدها روزالند، سمح لها عمّها فردريك بالبقاء في الدوقية لمجرد أنها الرفيقة المفضلة لابنته الوحيدة سيليا. ولروزالند، عاشق متيم هو أورلاندو النبيل الذي وقع في هواها منذ النظرة الأولى، لكنه اضطر بدوره الى سلوك درب المنفى تحت ضغط القمع الذي كان يمارسه عليه أخوه الأكبر اوليفر. وفردريك ما إن عرف بحب اورلاندو لروزالند حتى غضب على هذه الأخيرة وحرمها من دخول البلاط... فتتضامن معها رفيقتها سيليا وتقرران الهرب معاً في رفقة «تاتشستون»... بعد أن تتنكر روزالند بثياب فتى. وحين تصل الفتاتان ورفيقهما الى غابة آردن، تكونان قد تحولتا الى الفتى غانيميد، بالنسبة الى روزالند، والى الفتاة «آليينا» بالنسبة الى سيليا، أي الى فتى وفتاة من المفروض أن أحداً لا يعرف من أين جاءا. وإذ تصل الفتاتان الى الغابة وقد قررتا الانضمام الى حاشية الدوق المخلوع، لا تلتقيانه أول الأمر بل تلتقيان البائس كورين الذي تشتريان منه كوخه. أما جاك، الكئيب، فإنه يقدم الينا في الوقت ذاته بصفته واحداً من حاشية الدوق الكبير. وفي تلك الأثناء يكون قد وصل الى المكان اورلاندو وخادمه آدم، ليعيشا مع حاشية الدوق. ومنذ وصوله يبدأ اورلاندو بكتابة أشعار على الأشجار موجهة الى حبيبته الغائبة روزالند.

وهكذا، بالتدرج، إذ تستقر الأمور موقتاً على هذا النحو، تبدأ العلاقات بالتشابك، وبدلاً من أن نكون أمام ذلك الثنائي العاشق الذي يمثله اورلاندو وروزالند، نصبح أمام أربعة ثنائيات. ومن هنا تنشأ سلسلة المفارقات التي تملأ بقية ما تبقى من زمن المسرحية، حيث لا يعود أحد يعرف أحداًَ على حقيقته. ويصبح الأمر أشبه بلعبة أقنعة ومرايا، متقنة بقوة. ولكنها لعبة تقودها الفتاتان، بل حتى - تحديداً - «يقودها» غانيميد، الذي يبدأ بتوزيع الأدوار، من دون أن يعرف أحد حتى الآن انه ليس في حقيقته سوى روزالند - روزالند البعيدة نظرياً والتي سيبقى اورلاندو موعوداً بها، غير قادر على أن يحب غيرها. وهنا ذات لحظة تكشف روزالند حقيقتها ويبدو واضحاً أن درب حياتها المشتركة مع اورلاندو بات معبّداً. وها هي المسرحية قرب خاتمتها ترتدي طابع النهاية السعيدة. ولكن لأن السعادة يجب أن تغمر الجميع، كان لا يزال ثمة بعض التفاصيل التي يجب أن تحل. وهكذا، يحدث في الجزء الأخير أن يلتقي اورلاندو أخاه القاسي اوليفر في الغابة، في وقت كانت لبؤة تحاول افتراس اوليفر، فينقذه منها، ولا يكون أمام اوليفر إلا أن يردّ الجميل لأخيه ممتنعاً بعد الآن عن اساءة معاملته. وفي الوقت نفسه يلتقي سيليا (التي كانت لا تزال متنكرة بقناع آليينا) فيقع في غرامها ويتفقان على الزواج، ثم تتدبر الأمور بحيث، في المشهد الأخير نجدنا أمام أربعة أعراس متزامنة. بل الأجمل من هذا أن فردريك، الدوق الباغي يكون في تلك الأثناء، قد تاب الى رشده وندم عما فعله بأخيه، فيترك له الدوقية وينصرف الى حياة التقوى والورع.

نهايات سعيدة بالجملة في مسرحية كان من الواضح أن الهمّ الأساس فيها ترفيهي. والسبب؟ تاريخياً، كتب شكسبير هذه المسرحية بناء على طلب من راعيه وصديقه ويليام هوبرت، ايرل بمبروك، كي تعرض في تشرين الأول (اكتوبر) 1603، في قصر هذا الراعي، حين كان يستضيف في قصره الملك جيمس الأول الذي كان لجأ هناك هرباً من الطاعون الذي كان يجتاح لندن. ولعل هذا الوضع المأسوي هو الذي يفسر طرافة المسرحية وحبكتها التي لا تستهدف، أولاً وأخيراً سوى الترفيه. ويقول لنا التاريخ إن شكسبير نجح في الوصول الى غايته، إذ ظلّت المسرحية تقدّم ليلة كاملة أمام جمهور ملكي يقهقه ضاحكاً ناسياً مآسي العاصمة، وكل هذا مقابل ثلاثين جنيهاً منحها الإيرل للفرقة الشكسبيرية، وكان المبلغ كبيراً جداً في حسابات تلك الأيام بالطبع.

 

المصدر: الحياة