الشاعر والسلطان
أقام السلطان تيمورلنك احتفالاً عظيماً في السهول القريبة من مدينة سمرقند عام 1400م. وانتشرت في السهوب المحيطة بالمدينة خمسة عشر ألف خيمة، وفي وسطها نهض خباء تيمور لنك، خيمة عظيمة مربعة تقوم على اثني عشر عموداَ من الذهب، شدت إلى الأرض بخمسمائة حبل، ووقفت عند زواياها أربعة نسور فضية وتحت القبة وعلى دكة مرتفعة وسط الخباء تربع النسر الخامس تيمورلنك
فُرشت أرض الخيمة بسجاد لا يُضارع روعة وبهاء، وانتشرت دنان الخمر المذهبة، وفي الخلف جلس الموسيقيون مع آلاتهم، وعند قدمي السلطان جلست الحاشية والبطانة، وكان أدناهم إلى السلطان كرماني الشاعر.
التفت تيمور لنك إلى الشاعر قائلاً: «يا كرماني، بكم تشتريني لو عرضت للبيع غداً في بازار مدينة سمرقند؟». أجاب كرماني: «بخمسة وعشرين ديناراً يا حضرة السلطان». دهش تيمور لنك، وابتسم، ثم قال: «يا كرماني، حزامي وحده يساوي أكثر من هذه القيمة». أجاب الشاعر: «إنما كنت أفكر بحزامك وحده، لأنك أنت نفسك لا تساوي ديناراً واحداً».
تحمل الحكاية دلالات بين السطور، فالسلطان قد يمارس سلوكاً عنيفاً يصل إلى الانتقام والتصفية حين يتجرأ أحدهم على هيبة الدولة وسطوتها ممثلة بحضرته، ويكفيه في حالة الشاعر كرماني أن ينادي يا جلاد حتى يطير رأس الشاعر في الهواء..!!
والسؤال هنا متى تبدي السلطة تسامحاً معلناً مع خطاب انتقادي يصل حد السخرية المرة كما في حالة الشاعر؟ وهل المثقف، ممثلاً بالشاعر، استعمل هذا النوع من الخطاب المستتر بالغفلة كي يخرج سالماً برأسه مما يمكن أن يلم به؟ أم أن الأمر برمته كان مزحة في مجلس سمر السلطان؟ مهما كان الأمر فلا يمكن النظر إلى هذه الحادثة التاريخية إلا من خلال الدور المنوط بالمثقف. وقد يتخذ المثقف في محنة كهذه دور المهرج ويستعمل هذا النوع من الخطاب المستتر بالغفلة، وهذه الحيلة تعود بنا إلى الحديث النبوي: «أعظم الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر». بينما يخاطب القرآن النبي بآية هي في لفظها ومضمونها من ألطف ما سمع البشر على مر العصور: «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك».
يرسم المثقف هنا استراتيجية دفاعية مراوغة ناعمة، رغم ملمسها الناعم الرقيق تأتي أُكلها، فهل أمعن الشاعر في تجريد السلطان من هيبته والتورط في فضاءاته الموحشة، التي ربما كان الحضور داخلها مجازفة خطيرة يترتب عليها في كثير من الأحيان نتائج وخيمة تصل إلى حد التصفية الفعلية مادياً ومعنوياً؟ أم أن الشاعر هنا يتمثل قول أفلاطون الذي نقله أبو حيان التوحيدي في كتابه الخطير مثالب الوزيرين: «من يصحب السلطان فلا يجزع من قسوته وبطشه، كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر». أياً كانت دلالة هذه الحكاية فإنها تطرح علاقة ملتبسة مليئة بالتناقض ما بين المثقف والسلطان. و لا يكف المثقف فيها عن مراوغة السلطة بشتى الوسائل، مستجدياً عطفها ورضاها، مضمراً احتقارها وازدراء جهلها وحماقتها..
وتذكر المصادر التاريخية حادثة أخرى، تشبهها في المضمون، وتفترق عنها في التفاصيل، فقد زحف تيمور لنك عام 1403 م بجيوشه الجرارة من الشرق، واقتحم أنقرة ودارت معارك رهيبة كان النصر فيها للمغول.
ووقع السلطان التركي بايزيد الأول أسيراً، وتشتت رجاله إثر سلسلة من الخيانات والانسحابات من القوات الأوربية التابعة التي كانت تحارب تحت لوائه. وجيء بالمغلوب إلى الغالب، فأكرمه وأجلسه إلى جواره ثم قال له: «ماذا كنت تصنع بي لو وقعت أسيراً بين يديك؟» فأجابه بايزيد: «كنت أحبسك في قفص من حديد وأطوف بك في أرجاء مملكتي».
هز تيمور لنك رأسه قائلاً: «وهذا ما سأصنعه بك».
وذات يوم دخل الحارس خباء تيمورلنك يخبره أن بالباب فتى يريد مقابلته وحين مثل الفتى بين يدي السلطان، نزع ثوبه، فإذا هي الفتاة هيلانة ابنة ميليناس أحد القادة، كان التقى بها بايزيد ووقع في هواها.
وعندما وقفت الفتاة بين يدي السلطان قالت: «أنا فتاة مسكينة جاءت تطلب آخر رجاء لها في الحياة، فأنا حبيبة السلطان بايزيد أسيرك المحبوس في القفص وقد جئت لأراه للمرة الأخيرة». وعندما امتثل السلطان لأمرها. وقفت أمام حبيبها المحبوس وقالت: «بايزيد لقد وصلت إلينا أخبارك وعلمنا بما لحق بك أنت وابنك موسى. وها قد جئتك حاملة إليك رجاء مُحِبَّة لا تطيق العيش بعدك، فضع حداً للعار الذي تعيش فيه، واقطع حبل حياتك بيدك أنا بانتظارك وسأموت معك». وغرست الفتاة في صدرها خنجراً كانت تحمله. وما أن رأى بايزيد المشهد حتى وثب على حديد قفصه فظل يضرب رأسه ضربات متتالية حتى فجت جمجمته وسقط يتخبط بدمه. وأرسل تيمورلنك يستدعي موسى ابن السلطان من سجنه وأذن له بأن ينقل جثمان أبيه إلى بلده بعد أن أخذ عليه عهداً بأن يدفن معه جثمان فتاته هيلانة..!!