حرب الأفكار «ما بعد الحداثية» ضد الاشتراكية
تشير الأدلة إلى وجود صلة مباشرة بنظرية أكاديمية مناهضة للماركسية تسمى «ما بعد الحداثة» والتي نشأت في فرنسا وبرزت في الثمانينيات والتسعينيات بمساعدة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. كان ميشيل فوكو وجاك دريدا من أبرز أتباع ما بعد الحداثة. وخلفهما الفيلسوف الصهيوني برنارد هنري ليفي.
تعريب (بتصرّف): ناجي النابلسي
في تموز 2024، حصلت الجبهة الشعبية الجديدة، وهي ائتلاف من الأحزاب ذات الميول اليسارية على 182 مقعداً في الجمعية الوطنية الفرنسية. وقد تأسف هنري برنار ليفي على فوزها قائلاً في تلميح لفزاعة «العداء للسامية»: «إن انتصارهم يشكل خطراً رهيباً على فرنسا ويهودها».
إن الماركسية والأفكار الاشتراكية تغذي حركات تقرير الشعوب لمصيرها والتحرر من الاستعمار والمعارضة للنظام الرأسمالي. وقامت الولايات المتحدة إضافة إلى شن الحروب الإمبريالية والانقلابات الدموية المعادية للديمقراطية الشعبية وفرض العقوبات على البلدان لإخضاعها، بخوض حرب أيديولوجية عبر الأفكار المعادية للماركسية أو المشوّهة لها.
فلسفة ما بعد الحداثة
إن الفلسفة الغامضة لما بعد الحداثة، والتي انطلقت في ثمانينيات القرن العشرين، تقود الهجوم ضد الإيديولوجيا الماركسية. ويتلخص موضوعها المركزي في رفض الواقع الطبيعي الموضوعي. ويعبر عن هذا أحياناً بالقول إنه «لا وجود لشيء اسمه الحقيقة». وهذا يتناقض مباشرةً مع النظرية المادية الماركسية التي تسلط الضوء على الواقع الموضوعي للعالم المادي، وخاصة قواه الإنتاجية والصراع الطبقي.
يشرح جان فرانسوا ليوتار في كتابه «الحالة ما بعد الحداثية: تقرير عن المعرفة» الصادر عام 1979: «بتبسيط شديد، أعرّف ما بعد الحداثة على أنها عدم تصديق للسرديات الكبرى مثل تقدم التنوير أو الثورة الماركسية». كان المفكرون الفرنسيون ميشيل فوكو (1926-1984) وجاك دريدا (1940-2004) من رواد فكر ما بعد الحداثة، ودافعوا عن الشك والاستقلالية وزعموا مناهضة الاستبداد و«التحرر من الدولة»، لكنهم لم يعتنقوا أية رؤية عالمية شاملة.
زعم فوكو أن كل أيديولوجية مهيمنة في المجتمع، سواء كانت رأسمالية أو ماركسية، هي طريقة إكراه تهدف إلى التحكم في السلوك الاجتماعي، وأنّ المؤسسات التي تديرها الدول كلها قسرية، مثل المدارس وبرامج الرعاية الاجتماعية وقوانين موافقة الدولة التي تحمي القاصرين. لقد انتقد بشدة جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار لدعمهما للحزب الشيوعي الفرنسي، قائلاً «إن الماركسية موجودة في فكر القرن التاسع عشر كما توجد السمكة في الماء؛ أي أنها تتوقف عن التنفس في أي مكان آخر». طوّر دريدا نظرية ما بعد البنيوية، التي تفترض أنه لا يوجد معنى واحد داخل أنظمة المعرفة. وزعم أن استكشاف المعاني المتعددة سيحرر السوق الأكاديمية لتطوير أفكار إبداعية جديدة.
ما «الحرية الثقافية» التي تريدها الـ CIA؟
في عام 1966، جمع مؤتمر رائد عقد في جامعة جون هوبكنز في بالتيمور الرجلين معاً أمام أعين الجمهور. وكان عنوانه «لغة النقد وعلوم الإنسان» وقد كلف ما يعادل ربع مليون دولار بأسعار اليوم. وتم تنظيمه وتمويله من خلال مشروع مؤسسة فورد، مؤتمر الحرية الثقافية (CCF) الذي نشر الأدبيات المناهضة للشيوعية في المجلات ووسائل الإعلام والكتب في جميع أنحاء العالم. كان مؤتمر الحرية الثقافية وسيطاً لوكالة الاستخبارات المركزية، التي رأت بشكل صحيح أن ما بعد الحداثة هي العدو الطبيعي للماركسية.
حتى موسوعة ويكيبيديا لا تخفي ذلك: «كان مؤتمر الحرية الثقافية (CCF) منظمة ثقافية مناهضة للشيوعية تأسست في 26 حزيران 1950 في برلين الغربية. في ذروته، كان المؤتمر نشطاً في 35 دولة. في عام 1966 تم الكشف عن أن وكالة الاستخبارات المركزية كانت أداة في إنشاء وتمويل المجموعة. كان الهدف من المؤتمر تجنيد المثقفين وصناع الرأي في حرب الأفكار ضد الشيوعية».
تم تغطية مؤتمر CCF لعام 1966 على نطاق واسع من قبل مجلات Time وNewsweek وLe Monde وPartisan Review وغيرها من وسائل الإعلام المؤسسية. لقد أطلق فعلياً الثورة الفكرية المضادة للماركسية.
أصبح المناهضان للماركسية فوكو ودريدا في النهاية نجوماً أكاديميين عالميين. ويوضح صعودهما إلى الشهرة وترويج ما بعد الحداثة بمساعدة الدولة الأمريكية كيف تعزز المؤسسات الرأسمالية الإنتاج الفكري وتدفعه.
كنس الحقيقة تحت السجادة «ما بعد الحداثوية»
تركز ما بعد الحداثة على تمثيلات القوة عبر القيم والعروض والخطاب والثقافة. لا يلقي أنصارها باللوم على الأسباب الحقيقة للظلم لأنهم لا يؤمنون بحقيقة موضوعية يمكن من خلالها الحكم على ما إذا كان شيء ما صحيحاً أم زائفاً. وبعبارة أخرى، يعترف ما بعد الحداثيين بأشكال انتقائية من القمع الثقافي دون تحديد القوى التي تسببها. كان النقد الناعم للوضع الراهن هو الذي اكتسب شعبية واسعة النطاق بين النخب الحاكمة الحريصة على تحويل الاحتجاجات إلى مساحات أقل خطورة عليها.
وارتفعت المنح الدراسية لما بعد الحداثة بشكل كبير في أواخر القرن العشرين. واستولى ما بعد الحداثيين على مناصب هيئة التدريس في علم الاجتماع والأدب والسياسة التي كان يشغلها في السابق أساتذة ماركسيون. وغمرت المجلات والكتب التي تمت مراجعتها من قبل الأقران والتي تروج لأفكار ما بعد الحداثة السوق الأكاديمية العالمية، بتمويل من المؤسسات الأمريكية.
دعم النسوية الليبرالية
تم تهميش النسويات الماركسيات اللاتي يعتبرن الاستغلال الاقتصادي سبباً حاسماً لقمع المرأة. وبدلاً من ذلك، أكدت الباحثات النسويات الليبراليات الغربيات على البناء الاجتماعي للجنس، مع التركيز على العنف ضد المرأة في الأسرة، والتحيز، والتمييز، وثقافة الاستهلاك و«الدلالات» مثل الملابس والشعر. في التسعينيات، أصبحت الباحثات النسويات في الغرب مثل جوديث بتلر مهووسات بـ «سياسة الجسد». مستلهمة من فوكو، فحصت بتلر سلطات المجتمع لتنظيم الجسد البشري.
لقد دفعت «سياسة الجسد» النسويات الغربيات إلى إدانة الحجاب الذي ترتديه النساء المسلمات بينما فشلن في إدراك كيف كانت حروب النفط والعقوبات الغربية تقتل الملايين من النساء والأطفال العراقيين.
بحلول منتصف التسعينيات، اعتُبر تطوير وتطبيق النظرية الماركسية عتيقاً. لقد قيل لي صراحة أنه لن يكون من المقبول استخدامه في أطروحتي للدكتوراه (2009) التي كانت بعنوان «العقوبات على العراق: النشاط النسوي في مواجهة السياسة الأبوية 1990-2003».
تزامن تراجع الماركسية في التسعينيات في الجامعة مع تراجع حقوق العمال، وسحق قوة النقابات العمالية، واستهداف المشاريع الاشتراكية، سواء عبر استنزاف موارد الاتحاد السوفييتي، أو المساهمة في انهياره في عام 1992، أو تفكيك يوغوسلافيا الاشتراكية أو تنظيم انقلابات وكالة المخابرات المركزية و«الثورات الملونة».
«التقاطعية» والتفتيت
بحلول العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، تلاشى بريق ما بعد الحداثة. أصبح من الواضح من الناحية «المنطقية» التي تم ترويجها أنه إذا قلت إنه لا توجد حقيقة، فهذا في حد ذاته يعتبر «حقيقة». وبدلاً من ذلك، استحوذت فكرة أخرى قوضت فكرة الحقيقة الأساسية على الخيال الأكاديمي؛ إن «التقاطع» هو إطار تحليلي يفترض أن حقيقة كل شخص مختلفة لأن كل شخصين لا يعيشان الحياة الاجتماعية بالطريقة نفسها. وتنشأ الهويات الفردية من مزيج من التمييز والامتياز على أساس الجنس والتوجه الجنسي والعرق والطبقة الاجتماعية والعرق.
لقد تم تطوير «التقاطعية» في الأصل من قبل نساء من ذوات البشرة الملونة، ويتم تدريسها الآن في معظم فصول النساء والجنس، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، ودراسات الصحة، والدراسات العرقية وعلم الجريمة.
في حين أن زيادة الحساسية والرحمة تجاه «الآخر» مفيدة، فإن نهج التقاطع ينظر إلى فئة الطبقة باعتبارها مجرد قمع آخر، إلى جانب أشكال القمع الأخرى، وليس سبباً جوهرياً وأساسياً لأشكال القمع الأخرى ومولّداً لها، وهنا تكمن الوظيفة التضليلية للتقاطعية.
مع دخول الطلاب المشبعين بالتقاطعية إلى المهن، تبنت المؤسسات الممولة من الحكومات الغربية لغة الاستبعاد على أساس الجنس والعرق (ولكن ليس الطبقة الاجتماعية). نشأت قواعد وأنظمة جديدة، تقيد وتتحكم في اللغة والسلوكيات الأخرى ذات الدلالة من أجل «تنويع» و«إدماج» «الهويات» المختلفة.
لكنّ مثل هذه التدابير السطحية لا تؤدي إلى تغيير جذري. وبدلاً من إلغاء الثقافة، اندلعت الحروب الثقافية، مما أدى إلى تعزيز الانقسامات الاجتماعية. في المملكة المتحدة، فقد الناس وظائفهم وحتى حريتهم بسبب شيء قالوه أو لباس ارتدوه.
وبدلاً من إيجاد أرضية مشتركة والتوحد في العمل، تشكلت «مجتمعات» حول هويات هشة، وتقاتل بعضها بعضاً من أجل المنح والوظائف والأماكن العامة والدعاية أو مبيعات الكتب. نرى هذا بوضوح في الصراع بين حقوق المتحولين جنسياً وحقوق المرأة. نرى أيضاً تسلسلاً هرمياً زائفاً للأضرار: على سبيل المثال عندما يُنظر إلى «الذكورة السامة» على أنها تهديد أكبر للصحة العامة من الفقر.
برنار ليفي وميشيل فوكو
إن «نجم الروك» الفرنسي الحالي هو برنارد هنري ليفي المعادي للماركسية. فالرأسمالية، وفقاً لليفي، هي «الوجهة الطبيعية للغرب». وهو صهيوني يرفض وصف الهجوم «الإسرائيلي» على غزة بالمذبحة. إنه من أتباع فوكو، والفصل الأول من كتاب ليفي عن جائحة كوفيد-19 كان بعنوان «ارجع يا ميشيل فوكو - نحن بحاجة إليك!».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1189