مدرسة فرانكفورت... حصان طروادة الإمبريالي في قلب اليسار الغربي
«لم يكن مفاجئاً على الإطلاق أنْ يحظى أدورنو وهوركهايمر بالدعم والترويج الواسع داخل العالَم الرأسمالي. فمن أجل دعم اليسار غير الشيوعي ضد تهديد الاشتراكية القائمة بالفعل، هل ثمة تكتيكٌ أفضل من دعم أمثال هؤلاء العلماء واعتبارهم من أهم المفكرين الماركسيين في القرن العشرين، بل وأكثرهم جذريّة؟». هذا ما كتبه الباحث الماركسي في الشؤون الثقافية والفلسفية، غابرييل روكهيل في مقال نقديّ يذكر فيه معلومات مهمة حول أشهر مدارس القرن العشرين الغربيّة التي ادّعت أنّها «ماركسية» ألا وهي «مدرسة فرانكفورت».
إعداد: ناجي النابلسي
تأسست مدرسة فرانكفورت أو «معهد البحث الاجتماعي» عام 1923 كجزء من جامعة غوته في فرانكفورت، وكان من أبرز مؤسسيها الفيلسوف وعالم الاجتماع والاقتصادي فريدريك بولوك، ابن صاحب مصنع جلود ألماني يهودي ثريّ، ومن مؤسسيها أيضاً صديقه الألماني-الأرجنتيني فيليكس خوسيه فايل، ابن تاجر حبوب يهودي ثريّ. ثم أصبحت مدرسة فرانكفورت تحت إدارة الفيلسوف ماكس هوركهايمر عام 1930، ابن عائلة يهودية ثريّة ومحافظة تملك مصانع نسيج. ثم بدأ هوركهايمر بتجنيد مثقفين آخرين مثل تيودور أدورنو وهربت ماركيوز وإريك فروم وغيرهم.
وفي مقاله عنهم بموقع «الصالون الفلسفي» الذي حمل عنوان «السي آي إيه وعداء مدرسة فرانكفورت للشيوعية» يُعلِمنا روكهيل بأنّ مثقفي الخط الفكري لمدرسة فرانكفورت ورغم محاولتهم تصوير أنفسهم كنقّاد لجميع الاتجاهات الفلسفية والسياسية الكبرى (الرأسمالية والفاشية، والشيوعية) لكنّ وظيفتهم الحقيقية كانت معادية للشيوعية وشعارهم الحقيقي هو «أيّ شيء ما عدا الاشتراكية».
تمويلهم من واشنطن
شارك هوركهايمر في رحلة واحدة على الأقل في هامبورغ نظمها «مركز الحريات الثقافية» CCF الذي أنشأته الاستخبارات الأمريكية للاختراق الثقافي للأوساط اليسارية لضمان مكافحة التيارات الشيوعية والماركسية-اللينينية فيها. نشر أدورنو في مجلات تمولها السي آي إيه وأكبرها في أوروبا Der Monatوكذلك في Encounter وTempo Presente المموَّلتان من الجهة نفسها. كما استضاف في منزله «ملفين لاسكي» عميل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية والشخصية الرائدة في الحرب الثقافية الألمانية المناهضة للشيوعية. وأخبر لاسكي أدورنو أنه منفتح على التعاون مع معهد البحوث الاجتماعية، بما في ذلك نشر مقالاتهم وأي إنتاجات أخرى. قبل أدورنو العرض وأرسل له أربع مخطوطات للنشر، بما فيها كتاب هوركهايمر «كسوف العقل» في عام 1949.
إنّ خمسة من الأعضاء الثمانية في دائرة هوركهايمر عملوا كمحللين ودعائيين للحكومة الأمريكية ودولة الأمن القومي، والتي كانت لها مصلحة راسخة في استمرار ولاء مدرسة فرانكفورت حيث كان عدد من أعضائها يعملون في مشاريع بحثية حكومية حساسة، مثل مكتب لازارسفيلد للأبحاث الإذاعية الذي كان أحد المَلاحق الفعلية لبرامج الحرب النفسية الحكومية لواشنطن. وتلقى هذا المركز لدراسات الاتصالات منحة كبيرة آنذاك قدرها 67 ألف دولار من مؤسسة روكفلر تشكل أكثر من 75 بالمائة من ميزانيته السنوية. وقامت مؤسسة روكفلر أيضاً بتمويل عودة هوركهايمر الأولى من منفاه إلى ألمانيا في نيسان 1948، حيث تولى منصب أستاذ ضيف في جامعة فرانكفورت.
مع كل هذه الروابط مع الطبقات الرأسمالية الحاكمة والإمبريالية الأمريكية، لم يكن مفاجئاً أن تدعم الحكومة الأمريكية عودة معهد فرانكفورت إلى ألمانيا الغربية بمنحة كبيرة جداً عام 1950 بقيمة 435 ألف مارك ألماني (ما يعادل اليوم أكثر من مليون دولار أمريكي). وكان يدير هذه الأموال جون ماكلوي، المفوض السامي الأمريكي لألمانيا، الذي عمل كمحامٍ ومصرفيّ في شركات النفط الكبرى وشركة IG Farben حيث منح عفواً واسع النطاق وأحكاماً مخفّفة لمجرمي الحرب النازيين.
مواقف صهيونية
رغم أن أدورنو كان ينغمس كثيراً في السياسات البرجوازية الصغيرة المتمثلة في السلبية المتواطئة، متجنباً التصريحات العلنية بشأن الأحداث السياسية الكبرى، إلا أن التصريحات القليلة التي أدلى بها كانت رجعية إلى حد لافت للنظر. مثلاً، في عام 1956، شارك مع هوركهايمر في تأليف مقال دفاعاً عن الغزو الإمبريالي-الصهيوني لمصر (العدوان الثلاثي من «إسرائيل» وبريطانيا وفرنسا)، والذي كان يهدف إلى الاستيلاء على قناة السويس والإطاحة بعبد الناصر. وفي مقالهما المشترك كتبا: «لم يجرؤ أحد حتى إلى الإشارة إلى أنّ هذه الدول العربية اللصوصية كانت تبحث منذ سنوات عن فرصة للانقضاض على (إسرائيل) وذبح اليهود الذين وَجدوا ملجأ هناك».
بعضٌ من آرائهم «النيوماركسيّة»
اتهم هوركهايمر إنجلس بـ«الطوباوية»، وزعم أن إضفاء الطابع الاجتماعي على وسائل الإنتاج أدى إلى زيادة القمع، وفي النهاية إلى الدولة الاستبدادية. فوفقاً لابن المليونير هوركهايمر «كانت البرجوازية في وقت سابق تراقب الحكومة من خلال ممتلكاتها»، في حين أن الاشتراكية في المجتمعات الجديدة ببساطة «لم تكن تجدي نفعاً»، باستثناء إنتاج الاعتقاد الخاطئ بأن المرء يعمل من خلال الحزب، أو القائد المحترم، أو مسيرة التاريخ المفترضة – أي «التصرف باسم شيء أعظم من الذات». إنّ موقف هوركهايمر في هذا المقال -الذي كتبه عام 1973 بعنوان «الدولة الاستبدادية»- يتماشى تماماً مع الفوضوية (الأناركية) المناهضة للشيوعية، وهي أيديولوجيا منتشرة جداً داخل اليسار الغربي، والتي تروج إلى أنّ «الديمقراطية اللاطبقية» يمكن أن تنبثق بشكل عفوي من الشعب من خلال «الاتفاق الحر»، دون «التأثير الضار» للأحزاب السياسية أو الدول، وبمعنى آخر دون خوض أيّ نضال سياسيّ مُنظَّم ودون استحواذ الطبقة العاملة والكادحين على السلطة. وكما أشار دومينيكو لوسوردو، فإن آلة الحرب النازية كانت تجتاح الاتحاد السوفييتي في أوائل الأربعينيات، وبالتالي فإن دعوة هوركهايمر للاشتراكيين بأن يتخلّوا عن مركزية الدولة والحزب كانت فعلياً مطالبة لهم بالاستسلام أمام الإبادة الجماعية النازية.
بل وأكثر من ذلك، اقترح أدورنو في النص نفسه أنّ الهجوم النازي على الاتحاد السوفييتي يمكن تبريره! نظراً لأن البلاشفة كانوا -كما قال هتلر نفسه- خطراً على الحضارة الغربية. حيث كتب أدورنو: «هناك تهديد واضح يتمثّل في أن يبتلع الشرق سفوح أوروبا الغربية». انتقد أدورنو أيضاً النشاط الطلابي المناهض للإمبريالية والرأسمالية في الستينيّات. واتفق أدورنو مع الفيلسوف وعالم الاجتماع الألماني يورغن هابرماس على أن هذا النشاط يرقى إلى مستوى «الفاشية اليسارية»، وهذا ليس غريباً على هابرماس بدوره إذا تذكرنا أنه كان عضواً في شبيبة هتلر ودرس أربع سنوات على يد الفيلسوف النازي مارتن هايدغر. هذا إضافة إلى المواقف المدافعة عن ألمانيا الغربية باعتبارها «ديمقراطية فاعلة». ومن المواقف الأخرى المشينة لرموز مدرسة فرانكفورت دعم هوركهايمر للحرب الإمبريالية الأمريكية في فيتنام. ومن الحوادث المشينة لممارسات أدورنو، كمُدَّعٍ للماركسية، ومؤلّفٍ لكتاب «الديالكتيك السلبي» أنّه استدعى قوات الأمن لاعتقال أحد طلّابه بسبب انتقادات أثارها ذلك الطالب ضد أستاذه ولمشاركة الطالب في «رابطة الطلاب الألمان الاشتراكيين».
ومثل غيرهم من المثقفين البرجوازيين الصغار في أوروبا والولايات المتحدة، الذين شكلوا أساس «الماركسية الغربية» أعلن أدورنو وهوركهايمر علناً عن اشمئزازهما العنصريّ ممن وصفوهم بـ«البرابرة المتوحشين في الشرق»، الذين تجرّأوا على تبني النظرية الماركسية اللينينية من أجل النضال السياسي للتحرر من الإمبريالية وبناء دول اشتراكية مستقلة.
وبحشد سفسطة جدلية زائفة، دافعوا بلغة أكاديمية عالية المستوى عن خط الخارجية الأمريكية الزاعمة بأن الشيوعية لا يمكن تمييزها عن الفاشية. علاوة على ذلك، فإن نقدهم المعمَّم للهيمنة دون تمييز هو جزء من احتضان أكبر لأيديولوجيا مناهضة لأيّ نوع من التحزب السياسي والدولة، مما يترك اليسار في نهاية المطاف محروماً من أدوات التنظيم المنضبط الضروري لشن نضالات ناجحة ضد القوى السياسية والعسكرية الممولة جيداً وضد الجهاز الثقافي للطبقة الرأسمالية الحاكمة.
ماذا قال عنهم بريخت؟
يذكر روكهيل بأنّ المثقف والمسرحي الماركسي الألماني الكبير برتولد بريخت كان ممن أدركوا باكراً حقيقة ماكس هوركهايمر (مؤسس مدرسة فرانكفورت) ومساعده تيودور أدورنو. حتى أن بريخت وصف مثقفي مدرسة فرانكفورت بأنهم «عاهرات في السعي للحصول على دعم المؤسسات أثناء منفاهم في أمريكا، ببيع مهاراتهم وآرائهم كسلع من أجل دعم الأيديولوجيا القمعية للولايات المتحدة الأمريكية».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1181