عن الاغتراب والتفكك وتدمير الإنسان والمشروع النقيض

عن الاغتراب والتفكك وتدمير الإنسان والمشروع النقيض

كما صار واضحاً على مستوى الصراع الفكري والأيديولوجي عالمياً والمتصاعد مؤخراً والذي يأخذ بشكل خاص طابعاً فلسفياً، فإن النقاش يتمحور حول المشروع الحضاري النقيض ربطاً بأزمة النموذج الحضاري القائم ومصيره، كمدخل للمشروع النقيض بلا شك. وهنا نتناول جانباً أساسياً من أزمة النموذج القائم من باب تدمير قوى الإنتاج، والإنسان خاصة، على قاعدة الاغتراب وتجلياته الواقعية، ربطاً بأزمة العقل-الممارسة الطبية المهيمنة.

حول الانقسام المعرفي (الإبستِمولوجي)

حتى لا نقع في لوثة التخلي، واللا موقع، واللا منصة، التي راجت ويجري تعميمها خلال العقود الماضية، فإن الانطلاق في تناول قضية النموذج النقيض وأزمة النموذج القائم لا يمكن أن يكون خارج منصة المادية-التاريخية التي هضمت الإنتاج الفكري-الممارسي للبشرية ككل، وكذا لا بد أن يحصل اليوم معنا في مرحلة «عودة» الانفتاح التاريخي الذي بدأ في العقدين الأخيرين. وهذا يعني، وكون المرحلة التاريخية هي التأسيس لقَطعٍ نوعيّ، استعادةً للطروحات المركزية للمادية التاريخية والاقتصاد السياسي الماركسي مجدداً، ومنها وبشكل خاص قضية الاغتراب وأساسها «الإنتاج البضاعي». فالتناقضات التي يفرزها الإنتاج البضاعي، ومعه نمط الحياة الاستهلاكي الناتج عنه، ومنه قضية الانفصال بين الإنسان والمجتمع، بالمعنى الممارسي والمعنى الفكري-النفسي-الروحي، هذه التناقضات تشكّل اليوم حجر الزاوية في فهم أزمة النموذج الحضاري القائم، والتأسيس لنقيضه. وإذا أخذنا قضية الانقسام الموضوعية، ونتائجها العقلية-الروحية-النفسية، فإننا أمام مسار يمكن تتبعه خلال قرن من الزمن، وفي مختلف ميادين النشاط البشري، وكيف يتمظهر اليوم، وإن ظهر بلغة «العقل الرسمي» ومفاهيمه. فالانقسام الناتج عن الاغتراب يمكن أن نجده بشكل ناضج في الفلسفة تاريخياً، وبشكل خاص في الانقسام بين ثنائية مادية-مثالية، وهو ما كان حاضراً طوال قرون وقرون. ولاحقاً، ومع التطور الذي نضج مع الرأسمالية، والعلوم بشكل خاص، وتحديداً علم النفس، نجد ذلك الانقسام في المناهج وفي النظرة إلى الإنسان، الموروثة عن الفلسفة، والتي تمثلت في ثنائية عقل-جسد. وتداخل هذا الانقسام مع ميدان الطب الجسدي، لا بل إن الانقسام بين علم النفس وعلم الجسد هو التعبير الأكثر وضوحاً عن الانقسام المعرفي-الإبستِمولوجي المذكور، وخصوصاً بعد مرحلة تحول العلوم والطب منذ منتصف القرن الماضي إلى مستوى «الجماهيرية» أي في صيرورتها «متاحة» ولو نسبياً للمجتمع وبالتالي تلونت بتناقضاته.

بين علم النفس وعلم الجسد

إن نقاشاً مركزياً كان يدور طوال العقود القليلة الماضية حول قضية العلاقة بين «النفس» و«الجسد»، وبين علم النفس و«علم الجسد» (وخصوصاً الطب الجسدي الرسمي). ولم يصل هذا النقاش إلى خلاصات حاسمة وذلك بسبب من ثبات الانقسام الاجتماعي الذي يثبت قضية الانقسام ليس فقط بين الإنسان والمجتمع، بل انقسام الإنسان على نفسه. وهذه الثنائية نسخة من الثنائية الفلسفية، ولكنها تصل اليوم وبسبب من حدة الأزمة، ومن غنى المادة الملموسة، أي أزمة الإنسان-الجماهير، تصل إلى مستوى النقاش العملي الذي يحتاج إلى حل عملي. وكما في منهجيات الفلسفة وعلم النفس، حيث حاول العقل الانقسامي المهيمن أن يجد مناورات نظرية لرأب الصدع بين قطبي الانقسام «عقل-جسد» و«فكر-مادة»، فإن التناقض بين الطب الجسدي الرسمي وعلم النفس الرسمي وجد له العقل الرسمي مناورته الخاصة تحت مسميات مختلفة، ولكن كلها تحت عنوان «وجود علاقة بين النفسي والجسدي»، والذي يسمى غالباً بميدان الـ«نفس-جسد»، والمنعكس في علوم الاضطراب بالـ«سيكوسوماتيك» (psychosomatic) حيث يجري فهم بعض العوارض الفيزيولوجية على أساس نفسي. ولكن وجود علاقة يختلف عن وحدة الـ عقل-جسد. وبذلك لا نعني اختزال الجسد إلى العقل ولا العقل إلى الجسد، ولا اختزال نوعية الأول إلى نوعية الثاني وبالعكس، بل عن وحدة تفاعل بين المستويين، لا عن علاقة «خارجية» بينهما. وهذه الوحدة كان قد وصل لها بشكل تجريبي أولي العديد من الأطباء في التاريخ ومنهم مثلاً ابن سينا. ولكن أهمهم هم العلماء السوفييت الأوائل، والذي ركزوا على وحدة العقلي-الجسدي وعالجوا قضايا كوحدة العاطفة-العقل، والعاطفة هنا هي مجمل البنية العصبية-الحشوية الطاقوية للإنسان. ولاحقاً عالجوا قضية الاضطراب الوظيفي النفس-فيزيولوجي-عصبي، كالشلل والسرطان والعمى وفقدان الإحساس والاغتراب عن أعضاء الجسم، ووجد هذا التحليل «الوظيفي» طريقه إلى بعض العلماء البارزين عالمياً كأوليفر ساكس، الذي كان على علاقة قريبة من أحد أهم منظّري هذا «العلم الوظيفي» كالسوفييتي ألكسندر لوريا. ولكن، هذا المسار لم يتطور بالشكل الكافي لأسباب معلومة وأساسها التراجع «العقلاني» وتراجع تقدمية العلوم بالمعنى المعرفي-التاريخي، وتعاظم الأزمة والتناقضات الاجتماعية، ما ضخّم الرجعية في العلوم من أجل الهروب من الواقع العنيد.

عن وحدة النفس والجسد

إذا ما ثبّتنا ضرورة استكمال هذا الموقف «الوظيفي»، سنرى أن مجالاً واسعاً انفتح أمامنا لفهمٍ أعمقٍ لآليات عمل الفضاء النفسي-الفيزيولوجي-العصبي والعلاقة بين هذه المستويات في وحدتها، والأهم، فهم الاضطرابات التي تسود اليوم في عالم الطب الجسدي والطب النفسي على السواء، ومنها نذكر كأمثلة سريعة «قضية ملكية الجسد» التي لا يزال العقل المهيمن يجد صعوبة في إرساء التنظير الواضح لها، وقضية ملكيّة الجسد تتضمن المسافة بين الوعي وبين «ملكية الجسد»، ومنها أيضاً فقدان الإحساس بهذه الملكية، وبملكيّة بعض الأطراف كالأقدام والأيدي، وهناك قضية «الخلل الفيزيولوجي» في وظائف الأعضاء كالقلب وغيره، والخلل في عمل المفاصل والعضلات. وكلها يمكن أن يتم التفكير فيها من خلال نموذج الاغتراب عن المحيط وعن الذات بالوقت نفسه، أو الخلل في تركز الطاقة العصبية في بعض مواضع الجسم، والانقطاع بين الجسد والمحيط، الناتج عن انقطاعٍ بين فضاء الوعي الذي يتضمن صورتنا عن العالم وبين العالم نفسه، وضمناً الجسد. إنّ أصل الاضطرابات، وأصل عدم فهمها بأغلبها، يعود إلى عدم التلائم بين صورتنا الواعية عن العالم وبين العالم المنعكس (المتمثِّل بالمعاني العقلية التي لم يَقبض عليها الوعي) وبين العالم نفسه (ويمكن لاحقاً الوقوف عند هذا الوجود ذي المستويات المختلفة).

خلاصات عامة

حتى لا نغرق في نقاش مباشر ومفصّل و«أكاديمي»، إن النقاش العالمي اليوم، من الطب إلى علم النفس إلى السياسة إلى الاقتصاد، يضجّ بالتناقض الأساسي حول النمط الذي أسس للانقسام بين الإنسان والطبيعة والإنسان والآخرين والإنسان ونفسه. وهذا التناقض الذي يتمظهر في كل جوانب الممارسة (ومنها العلوم) لا يمكن إلا أن يكون جزءاً من النقاش حول أزمة النموذج القائم وحول النقيض. فهذا الانقسام بين الجسد والنفس، في الواقع كما في العلوم هو تعبير عن التدمير الحاصل للإنسان، وحماية الإنسان لا يمكن أن تتم إلا عبر استعادة وحدته على النقيض من انقسامه الحالي، والذي يؤسس لمختلف الاضطرابات المرضية المهلكة منها وغير المهلكة. واستعادة هذه الوحدة هي ما يشكّل جوهر النقاش حول المشروع الحضاري النقيض، فما هو سؤال الحفاظ على الحضارة دون الحفاظ على «إنسانية الإنسان» ووحدته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1162
آخر تعديل على الإثنين, 19 شباط/فبراير 2024 12:32