«أشياء لا تنسى» لبترارك: إعادة الاعتبار الى الفكر الإنساني

«أشياء لا تنسى» لبترارك: إعادة الاعتبار الى الفكر الإنساني

يعتبر الكاتب والشاعر الايطالي فرانشيسكو بترارك عادة، المبشر الاول بعصر النهضة، أي العصر الذي بدأ يشهد استعادة الانسان إنسانيته ومكانته في الحياة والكون.

وعادة ما يقال إن الكتاب الذي انطلق فيه بترارك لدعوة الانسان الى معرفة ذاته وعيش تاريخه الخاص هو كتابه «رجال مرموقون» (أو «دي فيريس ايليستريبوس»)، الذي دوَّن فيه سير الكثير من المفكرين الذين اعتبرهم قدوة، ومثلاً تحتذى. غير ان الإنصاف يدعو احياناً الى التوجه بالنظر ناحية كتاب آخر لبترارك من الصعب القول انه يقل اهمية عن كتابه هذا. بل بالأحرى لا بد من وضعه في مكانة متقدمة، ليس في انجازات المفكر والشاعر الانساني الكبير هذا، فقط، بل في انجازات تلك المرحلة الانعطافية من تاريخ البشرية: القرن الرابع عشر الميلادي. الكتاب الذي نعنيه هنا هو «أشياء لا تنسى» (أو في اللاتينية «ريروم ميمورانداروم»)، وهو كتاب من المفروض انه يتألف من اربعة أجزاء، لكن بترارك، الذي بدأ تدوينه عام 1344 لم يتمكن من ان ينجزه بأكمله ابداً على رغم انه عاش ثلاثين سنة بعد ذلك. والكتاب، في شكله العام دراسة تاريخية... ولكن ليس في المعنى الاكاديمي الجامد للكلمة كما سنرى.

قبل أي شيء آخر، لا بد من الاشارة الى ان بترارك استوحى فكرة كتابه هذا من كتاب مشابه، انما اقل طموحاً ألّفه فاليريو ماكسيموس. ويجمع المؤرخون على ان ما فتن بترارك في كتاب ماكسيموس كان بنيته التعددية، حيث إن الشكل الذي اتخذه النص، كان يتيح للكاتب ان يستعرض مقطعاً بعد مقطع وفصلاً بعد فصل قوة معرفته العلمية التاريخية فيروح مستعرضاً اياها قبل ان ينتقل الى استخلاص الدروس والعبر التي تفيد قارئه. وهذا النوع من البنية كان نادراً في الآداب الغربية في ذلك الحين، حتى وإن كنا نعرف ان اليونان عرفوه، ثم الرومان من بعدهم، كما عرفه العرب والصينيون. اما أوروبا ما قبل النهضة، فكان هذا الاسلوب قد صار غريباً عنها اذ استبدل بنصوص سردية دينية لا مكان فيها لتجزيء يعطي كل جزء امكان الحديث عن شخص او عن موقف او حدث. لكن هذا لم يكن الاساس، طبعاً، في هذا الكتاب البتراركي، تشهد على هذا مقدمة الكتاب التي آثر الشاعر/ المفكر ان يكرسها لامتداح ما سمّاه «فعل لا شيء» او «زمن الفراغ» وبالتالي: الكسل، ولكن ليس الكسل الفكري بالطبع.

في هذه المقدمة، لا يخفي بترارك مراده ولا ما يعنيه بـ «فعل لا شيء» حيث إن هذه الفسحة من الوقت التي ينصح بها لا بد من أن تكون استراحة للمفكر يتصرف فيها بعيداً من همومه الفكرية وأشغاله الابداعية. إنها فترة تحتاجها الروح لكي تعيد خلق نفسها وتكوين أجزائها، قصد الانطلاق بعد ذلك الى فسحة عمل فكري جديدة. وإذ يرى بترارك انه بنصه الثاقب والجميل تمكن من إقناع قارئه بضرورة الخلود الى تلك الراحة (على اعتبار ان القارئ هو المعني بها طالما ان قراء ذلك الزمن ما كان يمكنهم أبداً ان يكون من العامة، بل من خاصة المفكرين والمبدعين)، ينتقل الى مرحلة تالية من كتابه حيث يعدد الفضائل والقيم ودائماً عبر ارتباطها بإنسانية الإنسان. وفي رأي بترارك تقف فضيلة الفطنة والحذر في مقدم الفضائل، لكنه في الوقت نفسه يقسم هذه الفضيلة الى ثلاث يعرّفها على النحو الآتي: الفطنة في تذكر الماضي، الفطنة في التعاطي مع الحاضر، وأخيراً الفطنة في توقع ما سيأتي به المستقبل. وبترارك في كل مرة يتحدث فيها عن أمر من الامور، يتعمق في التشديد على كلامه عبر لجوئه الى أمثلة لا تحصى مستقاة من التاريخ، بل بشكل اكثر تحديداً من تاريخ شخصيات من الواضح انه يكنّ لها اعجاباً كبيراً، ويرى ان سيرة حياتها وتعاملها مع الاشياء التي يحكيها، تكفي لإيصال الفكرة الأخلاقية الأساسية التي يريد إيصالها الى قارئه. وهكذا مثلاً نراه حين يتكلم عن ضرورة الراحة للروح المنتجة الفكر، يدخل في لعبة تفاصيل الاسماء حيث يروح ذاكراً أموراً كثيرة حول عدد لا بأس به من شخصيات أُثر عنها اهتمامها بتلك الراحة وحرصها على اللجوء اليها كلما اقتضى الامر ذلك (والأمر يقتضيه بشكل مستديم متواصل، يقول بترارك هنا). وفي رأي بترارك، من بين ألمع شخصيات الماضي والحاضر، التي اهتمت بالراحة وعرفت كيف تلجأ اليها وتنمّي روحها من خلالها، نجد شيبيون الاول (الافريقي) وشيبيون الثاني، وشيشرون وايبامينونداس، وأخيل سقراط (الذي كان ملكاً غير متوّج في هذا المجال الى درجة انه لم يقم بأي عمل غير التفكير خلال حياته... وبالأحرى غير دفع الناس الى التفكير). وبترارك ضمن اطار هذا الاسلوب الاستقرائي نفسه، بعد ان يطبّق اسلوبه هذا على فضيلة اللجوء الى الراحة، يطبّقه كذلك على فضيلة الفطنة والحذر، ثم ينتقل الى تطبيق الأسلوب على كل من الاقسام الثلاثة التي وزّع اهمية الفطنة عليها (الماضي، الحاضر والمستقبل) مستنبطاً لكل فئة اسماء اشخاص يسهب في ربط تصرفات وسلوك كل واحد منهم بفكرته الاساس.

وهكذا اذ يمضي الكتاب على هذا النحو، سرعان ما يلوح طابعه السقراطي، ما يجعل الكتاب يبدو نهضوياً في شكل يعزّ في الحقيقة على أي من نصوص بترارك الاخرى. لأنه هنا لم يكتف بالمعلومات التي كان يعرف انها متوافرة في كل مكان، وخصوصاً في كتابات وحكايات الذين سبقوه، بل تجاوز هذا الى لعبتي التحليل والربط، بمعنى انه ما إن يحلل فكرة حتى يروح رابطاً اياها بالشخصية التي يريد ان يتحدث عنها مستنبطاً من نصوص كتبتها تلك الشخصية، او من مآثر عرفت عنها، ما يدعم كلامه. فبالنسبة اليه، هذه الشخصيات هي لأناس مميزين، جعلوا لوجودهم في الكون معنى حقيقياً، ما يجعل هذا السلوك قانون حركة للبشرية جمعاء. وهو إذا كان يصر في تحليله ثم تركيبه، على ان هذه الفضائل وارتباطاتها انما هي أمور يجب ان تكون وقفاً على الخاصة، فإنه لا يفوته ان يضمّن كلامه دعوة الى كل الناس كي يقتدوا بأولئك الخاصة. ولعل في هذه النقطة المواربة بالذات تكمن رؤية بترارك الانسانية النهضوية الاصيلة. ولعل النقطة الاساس التي يجدر بالمرء ان يلاحظها هنا هي ان نصوص بترارك كلها في هذا الكتاب، انما تكشف عن عميق حبه للأقدمين، أي لكل اولئك القادة - قادة الفكر وقادة الناس - من الذين ابدعوا للإنسانية تاريخها، بصرف النظر عما حدث من تغيير في هذا التاريخ بفعل ظهور الاديان، التي على عميق سموّها، نحّت الانسان كمفكر مسؤول عن مصيره جانباً، لتدفعه الى الاتكال ناسية ما دعت اليه هذه الاديان البشر من ان يعملوا ويسعوا لأن الرب يكون معهم. فهذه الدعوة الدينية الاصيلة تحولت تحت ربقة تفسيرات لاحقة للدين الى دعوة للاتكال والتقليد. وهو ما أراد بترارك ان يحاربه عبر تصوير فضائل العظماء من الذين هالتهم تلك الاتكالية فجعلوا من همّهم العمل والتحرك... وقبل ذلك ممارسة التفكير والتأمل الخلاقين.

انطلاقاً، اذاً، من هذه الفكرة التي من الواضح انها تهيمن على الكتاب ككل، كان في الإمكان اعتبار بترارك اول انسان حقيقي في تاريخ النهضة. وبالتالي اعتباره مفكراً همّه الأساس ان يعيد الاعتبار خصوصاً الى مفكري اليونان القديمة من الذين أنسنوا العقل وجعلوه نبراساً ودليلاً لهم، وكذلك الى مفكري الرومان الذين اهتموا بالشرائع (صابّينها في خدمة الانسان ومكانه في المجتمع) وبالأخلاق. ومن هنا لا يتوقف بترارك في أي صفحة من صفحات كتابه عن اعلان فخره بأنه من يعيد الاعتبار الى عصور الاقدمين وجهادهم في الحياة، تلك العصور التي يبدي بترارك (1304-1374) أسفه الشديد لأن الاجيال السابقة عليه قد شوهت افكارها وحكايات حياتها، غير مكتفية بأن تنساها وتتركها لحال سبيلها. ولعل خير تعبير لبترارك في هذا المجال هو ذاك الذي يقول فيه انه فرح بالتأمل في حال الماضي والحاضر عبر «أمور لم أرثها عن آبائي، لكنني صرت قادراً على ان أورّثها لأبنائي».

 

المصدر: الحياة

آخر تعديل على الثلاثاء, 27 أيار 2014 22:23