ربما ..! حين يغادر البطل نص الرواية
رائد وحش رائد وحش

ربما ..! حين يغادر البطل نص الرواية

في الصباح، ربما في المساء.. شمالاً، ربما جنوباً.. وبالتحديد لا يمكن التحديد. فتح بطل الرواية الكتاب الأنيق إخراجاً وطباعةً كما تفتح النافذة وقفز خارجاً.

تمطى كالمستيقظ تواً من النوم، وقام بنفض أثار الحبر عن جسده المنتفخ لشدّة التقلب في مزاج الكاتب.. ثم مضى.

وجد نفسه يسير دون إرادة في الشوارع المذكورة في الكتاب، لكنها لم ترقه على الإطلاق. التقى الأشخاص ذاتهم في النص، لكنّ شعور الانسجام لم يصاحب أي لقاء. الشيء الوحيد الذي أحسسه أنّه دمية، مجرّد دمية تافهة، تحركها قوة مجهولة وغامضة لا يعرف ماهيتها.

وبما أن الكتاب قد وصلت طبعاته إلى «العاشرة» التي أوشكت الرابعة تنفد، وشرع الناشر الحربوق يعد العدة لإصدار الطبعة الجديدة في أقل من سنة، قام الكاتب في تلك الأثناء بالكثير من التعديلات هنا وهنالك، بل إنه حذف فصولاً وأضاف أخرى، ما جعل مصير البطل المسكين فوضوياً طائشاً، وبأكثر من مآل دراميّ على العكس منّا نحن البشر المحكومين بنص واحد هو «اللوح المحفوظ». فعلى سبيل المثال المشهد الذي ينوجد فيه البطل في المطار لمغادرة البلاد تحول إلى مشهد وصول، كما أن المودعين صاروا مستقبلين فجأة، فأخذته حيرة عمياء لا أول لها، وأطبق حصار مطلسم على عقله الضال فمن أين له أن يعرف أنه كائن افتراضي قد دبت فيه حياة فجائية وصار لحماً ودماً؟

وبسبب اعتماد الكاتب تقنية الوصف في بناء الرواية كانت هناك قبضة شديدة القوة والإحكام تسيطر على أقل أشيائه، هذا عدا الخزعبلات التي تم سوقها جزافاً لتعرية أزمة الذات المتجلية في غرابة الأطوار، وذلك من باب السخرية والتهكم، بالأخص مواقف الشعور بضخامة حجم الرأس، إذ كلما حاول الدخول من باب ما، أمال رأسه يميناً بزاوية حادة تضيق رويداً.. رويداً، حتى يتلامس مع الكتف الأيمن، فيتقدم بربع خطوة حارفاً الرأس يساراً... يساراً.. بالإيقاع نفسه، والدخول بحذر من يدخل طاولة أو خزانةً.

كذلك آلمته تشظيات لغة الحوار، حيث بدا في قطيعة موحشة مع الآخرين، كي يكون نموذج الإنسان المعاصر، حسب زعم الكاتب في لقاء صحفي مطول، مع أنه من أشد الناس حباً للاجتماع الإنساني، والعلاقات المفتوحة، دون حسابات، مع الآخرين.

الأسوأ هو زمن النص الشبيه بدوامتين متداخلتين، والذي قطّع أوصاله روحه بين استرجاع أحداث ماضية، واستباق أحداث لاحقة، ما ألبسه انفصاماً لا سابقة له في حيوات الكائنات الأخرى.

أما الحبيبة الإشكالية -التي يجب أن تزلزل جذور وجدانه حسب النص- فكانت دون أدنى من مطامحه النسائية فهي جريئة ومشاغبة في حين أن تكوينه يحتاج المرأة العادية جداً (هو هكذا! من له عنده؟)، بعيداً عن بطولات الكتاب الزائفة في مقارعة العقلية الذكورية الراسخة، وخرق التابو الاجتماعي الصامد - رغماً عنهم- كالطود.

كل ذلك هوى على نافوخه كنيزك مقعداً إياه طريح كآبة مزمنة، جعلته ينطق بحياة متخيلة سابقة، لكنّ رغبة الكائن الحيّ فيه بامتلاك زمام أمره أعطته ما يحتاجه من جلَد وشجاعة، فخرج على النص غير مبال بخطوط الحكاية، ولا تقنيات السرد، أو حتى أوهام القراء الرائين فيه صورة ذواتهم في حياة لا يمكن أن تعاش خارج الورق.

جلس إلى منضدة كاتبه، وجمع كل تعليقات الصحف عن الرواية /الحدث، وتقارير مبيعات المكتبات، ونسخ الترجمة المتعددة اللغات، وتنظيرات النقاد الباردة ومسودات النص بأكملها... جلس ماسخاً إياها كتاباً كالذي خرج منه، في بطولة نادرة تثأر لعزلة كائنات مملكة الخيال، منذ جلجامش مروراً بهاملت وأشياعه، وحتى آخر شخصية يخلقها كاتب..

آخر تعديل على الخميس, 22 كانون2/يناير 2015 17:32