«طوفان» الأسئلة.. تطوير الهجوم.. وافتتاح مرحلة جديدة..

«طوفان» الأسئلة.. تطوير الهجوم.. وافتتاح مرحلة جديدة..

إذا كانت مقولة لينين: «وقد تمر أيام تختزن في طياتها عقوداً» مناسبة للمرحلة الأخيرة من عمر اشتداد الأزمة الرأسمالية بشكل عام، فهي ولا شك تصحّ على الأيام والأسابيع الأخيرة بالتحديد بعد عملية طوفان الأقصى، فهي تكثيف لما هو مكثّف أساساً. ولهذا فإن مادتها غنيّة ومعقّدة وتؤكد الكثير من الخلاصات السابقة التي تفتتح المرحلة القادمة. وهنا سنحاول مرة جديدة اختبار هذه الخلاصات (وتطويرها في آن) في حقل الحدث المشتعل.

تكثيف المكثف

في المرحلة الحالية، تم تثبيت بعض الخلاصات المؤَسِّسَة التي قد يعتبرها البعض فرضيات لا أكثر. منها مثلاً: أن المرحلة الحالية تفتتح زمناً هو ليس فقط خاتمة القرون الأخيرة، حيث سادت فيها الرأسمالية نمطاً للإنتاج، بل أيضاً للمجتمع الطبقي ككلّ. ويكمن مبرره في كون الحياة الطبيعية على الكوكب وضمنا البشر لم تعد تحتمل هذا النمط من الإنتاج. ولهذا فهي مرحلة تكثّف فيها كل أسئلة التاريخ البشري ومعانيه. ومن الخلاصات أيضاً، ولكونها مرحلة بهذا المعنى في التاريخ، فهي تفترض إجابات متناسبة مع حجم الأسئلة. ثالثاً: إن النظام المحتضر (كشكل محدد من المجتمع الطبقي) ولكونه فقد هوامش مناورته التاريخية، وصار معادياً للحياة، فهو أيضاً يعادي ويدمّر كل شكل من هذه الحياة المادية والروحية، ولكل ما أنتج تاريخياً من عقلانية وانتظام وفعالية، لكونها بقاءها نفسها (كعقلانية وانتظام وفعالية) مرهوناً بتجاوز هذا النظام. والتجاوز هذا يتطلب استعادة كل التراث النظري والعملي الثوري بما يتجاوز الاصلاحية والطروحات المحافظة، مع تجاوز الإنتاج البضاعي ونظام الحياة الاستهلاكي نفسه، كون هذا هو أساس اللاعقلانية وقوة التدمير الكامنة في يد العالم القديم، وتحديداً في توظيف «الرأي العام» لصالح تأخير أو تدمير ما هو قادم خصوصاً بعد إدخال أغلبية الجماهير كقوة في يد النظام نفسه، بعد الحرب العالمية الثانية من خلال الهيمنة الهجينة. إذن، المرحلة الراهنة من عمر الأزمة هي تكثيف للتاريخ ككل. ولأن الترابط شديد والنظام صار عاليَ التعقيد خلال عقود العولمة، فإن كل حدث يؤكد هذه الخلاصات ويستعيدها، ويظهرها إلى العلن الأكثر، وبالتالي، كلما زاد وزن الحدث، كلما كان هو نفسه تكثيفاً للمرحلة المكثفة، كما طوفان الأقصى بالتحديد. ومن هنا أهمية كشف ما يضيفه كل حدث، وما يؤكده من هذه الخلاصات التي صار تثبيتها واعتمادها علنياً ضرورة من أجل افتتاح المرحلة القادمة، كون الواقع نفسه يتطلّبها.

الواقع يقترب جداً من النظري

كان تطوّر المعركة خلال الأيام الماضية في فلسطين وحولها، وصولاً إلى كلمة الأمين العام لحزب الله، يكشف عملياً عن التحليلات في قاسيون، وبعض الأصوات الأخرى، بأن معركة طوفان الأقصى وضعت النظام العالمي ككلّ أمام استحقاقاته، وضمناً النظام الإقليمي، ووضعت بالتالي نظام الهيمنة الغربية ككل أمام استحقاق التجاوز. وهذا كفيل بأن يكون الحدث نفسه استعادة واستنهاضاً عملياً للخلاصات التي أشرنا إليها أعلاه، وبالتالي، يفرض على طاولة البحث الإجابة عنها. ويمكن من خلال استعادة بعض الأمثلة خلال الأسبوع الماضي أن نرى هذه العملية.

أولاً: تم تثبيت مصطلح دور «الرأي العام» كجزء أساس من التحليلات حول الحرب، حيث رأينا تصاعد دوره بعد الحرب في أوكرانيا، وهذا ناتج عن ازدياد واقعي في الحرب العلنية إلى درجة «الوقاحة» على الوعي، كلما اشتد الصراع، لكون «الرأي العام» هو تعبير عن وزن الجماهير في ميزان القوى في نظام الهيمنة الجديد. ودور «الرأي العام» انكشف لما صار احتمال خسارته واقعاً (على لسان العدو نفسه) من قبل العالم القديم حول القضية الفلسطينية، وانكشاف النفاق والكذب الذي كان ممكناً في السابق، بسبب ميلان ميزان القوى سابقاً لصالح الاستعمار، أما اليوم، ومع اختلال ميزان القوى ضاقت هوامشه.

ثانياً: انكشفت الفجوة بين الحاجة إلى وعي مسيّس عاليَ التجريد، ضد العقلية الشعبوية والسياسية «اليومية» الاستهلاكية. وهذا أيضا ظهر بشكل جنيني في الموقف من كلمة الأمين العام لحزب الله، التي وبحسب الآراء كان قبل أن يلقيها محط انتقاد إن لم تكن «إعلاناً للحرب» (بسبب من حجم الدماء والآلام، دون أن يكون للخط الاستراتيجي العام، والتعقيد في طبيعة القوى نفسها التي تقاتل في حضور في وعي الغالبية، بل موقفاً «إنسانياً»)، وما فرض تناول هذه القضية في مواد في صحيفة الأخبار نفسها، والتي ناقشت ضرورة رفع وزن التناغم بين العقل السياسي للقوى الفاعلة، وبين «قواعدها ومحبيها». هذا هو جزء من تطوير الوعي السياسي للقوى الاجتماعية.

ثالثاً: يجري تثبيت مقولات الحرب الحضارية والثقافية، وكل ما هو مرتبط بنقاشات عالية التجريد حول الهوية والدور التاريخي للأمم وتراجعها وتقدمها، إضافة إلى استعادة كل الأسئلة المرتبطة بطبيعة القوى نفسها، بين ديني وغير ديني، وبين قومي وماركسي، وعن استعادة تراث التجارب السابقة (وأسباب الفشل وعدمه)، إضافة إلى تفسير طبيعة الصراع بين القوى عالمياً، وبين «من هو معنا» وبين «من هو ضدنا ويستغلّنا لصالح طموحاته» والمقصود هنا روسيا والصين وإيران بالتحديد، وبالتالي، تحصل استعادة قوية للرؤية المرتبطة بالمرحلة وبأفقها (وهي استعادة للنقاشات التي تلت الأزمة السورية، ولاحقاً الأوكرانية بشكل خاص، كونها أحداثاً منفجرة).

رابعاً: تثبت أيضاً في الخطاب العام، أن المرحلة مفتوحة على صراع طويل، لا تسوية تاريخية فيه، والحلّ لن يكون بالضربة القاضية، بل بانتقالات تراكمية «تحوّلية» وهذا تحديداً قيل بشكل متبلور في كلمة الأمين العام لحزب الله. هذه الأمثلة إضافة إلى كونها تؤكد الخلاصات السابقة فهي تعبير عن خلاصة أخرى مرتبطة بالمرحلة الراهنة، كانت قد ذُكِرت في مواد سابقة، بأن الواقع العملي يكشف عن الجوهر النظري للمرحلة بشكل صريح نتيجة حدة التناقض ما يجعل التجريد عالياً وواضحا للعين العادية، فتظهر العمليات على السطح، فنرى مثلاً: ظهور ترابط الصراع عالمياً و»وحدة للساحات» والفرز العظيم الحاصل للقوى نتيجة ضيق هوامش المناورة التاريخية نفسها، وضرورة اقتراب شكل الخطاب من مضمونه الصريح، وإما فالصّمت، كما هو حاصل مثلاً في تجاهل «عالي الصوت» لدور التوازن العسكري والسياسي لروسيا والصين مثلا من قبل قسم كبير من «الرأي العام»، والغرق في سردية «ألا من ناصر ينصرنا» و»غزة المتروكة». لم يسمع أحد بالتهديد الروسي العلني، ومن على منبر الصّين، للأسطول الأمريكي في البحر المتوسط، ولم يسمع أحد بموقف روسيا والصين الصريح في الأمم المتحدة ومجلس الأمن! ويجري تجاهل وزن إيران في دعم قوى المقاومة في اليمن ولبنان وغزة.

خلاصات عامّة

ما سبق، لا يؤكد الخلاصات المشار إليها أعلاه فقط، ولكن أيضاً يفتتح خلاصات أخرى أشير إليها في أماكن سابقة على ضرورة تطوير الهجوم بما يتجاوز إحداثيات وأرضية كل نظام الهيمنة الحالي. وهذا ما قال به أحد المحللين (غير «الثوريين»!) بأن القوى كلّها بعد المعركة ستتحول إلى قوى جديدة غير ما كانت عليه قبلها. وهذا سيظهر تباعاً وبوضوح أكبر مع كل تطور للصراع وسريعاً جداً. وهذا يعني تسريعاً ورفع مستوى المبادرة لنقاش ملّح حول تقديم المشروع الحضاري النقيض، الذي وحده قادر على تجاوز حدود القوى الفاعلة الراهنة، ويحوّل الإمكانات الكامنة إلى قوة فاعلة. وهنا نعيد الإشارة إلى أن توظيف دور «الرأي العام» وتطوير الوعي، والإجابة عن الأسئلة، والخروج من الانقسامات التي يخترعها ويروّج لها العقل المهيمن، أي تطوير الهجوم عبر توحيد (وإنتاج) القوى الحية عالمياً، لا يمكن إلا ضمن منصة سياسية ومعرفية نوعية تجيب عن الأسئلة التي تحملها المرحلة في تكثيفها، فالكبح العسكري ضروري كما ظهر خلال السنين السابقة، ولكنه وحده ممهد، وهو اليوم يترافق ويتزامن مع عملية سياسية لها برنامجها الذي يعكس طبيعة المرحلة كانتقالةٍ حضارية، فالخنادق الي لا زال العالم القديم قادر على التحصن فيها والهجوم من خلالها، لا زالت كبيرة، وهي حاضرة في الأسئلة التي تحملها المرحلة. وهذا مرتبط بخلاصة أخرى، هي أن الحرب صارت ظاهرة دائمة من المشهد لا مرحلة انتقالية فيه (الصراع بين الحرق وإطفاء الحريق)، وبالتالي، يجب أن تترافق مع عملية سياسية، ما يرتبط مع خلاصة أخرى، هي تزامن عملية الانتقال ليس كتزامن جغرافي فقط، أيضاً تزامن بنيوي. كل يوم يمر، وكل ساعة، ستوضح أكثر هذه المهمة، ومن الضروري التحضير العملي لها عبر تطوير الهجوم، فالتفاعل مع الطوفان عالمياً، كشف ولو قليلاً عن حجم القوى الكامن المشار إليه سابقاً، الذي هو ميزان قوى انتصار الحياة والانتقال الحضاري. وكاد المريب أن يقول: خذوني عند قول رموز العالم القديم بشكل متكرّر، بأن المعركة عالمية (يجملون بذلك كوريا الشمالية وروسيا والصين والمقاومة الفلسطينية، وكل المتعاطفين مع فلسطين) هي بين «البربرية والحضارة الإنسانية». هي فعلاً كذلك اليوم لا شعاراً بل ممارسة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1147