إنتاج الفن واستهلاكه في عصر تسليع الجَمال
ستيفان ميزاروز ستيفان ميزاروز

إنتاج الفن واستهلاكه في عصر تسليع الجَمال

من جوانب انتقاد ماركس للملكية الخاصة هو أنّها جعلتنا «شديدي الحماقة وأحاديّي الجانب بحيث أنّ موضوعاً لا يكون لنا إلا عندما نمتلكه – عندما يوجد من أجلنا على هيئة رأسمال». يتجلّى ذلك في كل جوانب النشاط البشري، بما في ذلك الفنّ. كما يوضّح الفيلسوف الهنغاري الماركسيّ ستيفان ميزاروز، في النصّ التالي (بتصرّف عن كتابه «نظريّة ماركس في الاغتراب» 1970).

تعريب وإعداد: ناجي النابلسي

الفن تماماً كأيّ نشاط آخر يتضمّن الاستهلاك، وطبيعة كلّ شكلٍ خاصّ من الاستهلاك تكشف الطابع الخاص للنشاط المعني. فإذا تمّ استهلاك عمل فني كموضوع نفعي محض، فهذا يبيّن أنّ ثمّة خطأ ما في كيانه الخاص كعملٍ فني. كما يقول ماركس «الاستهلاك يخلق الدافع للإنتاج». وهذا يبرز بوضوح علاقة تفاعل يتمّ نسيانها عادة. وفي ضوء تفاعل كهذا يغدو واضحاً أنه إذا استُهلِك العمل الفني كموضوع تجاري، فإنّ «الدافع للإنتاج» الذي يخلقه هذا الاستهلاك هو من النوع الذي ينتج مواضيع تجارية (أي إنتاجاً بضاعياً).

الاستهلاك المُنتِج

من المهمّ أن يبقى حاضراً في الذهن التعقيد المتعدد لمشكلة الاستهلاك، ضدّ ما يعرف من رؤى وحيدة الجانب. فقد درجت العادة على معاملة الاستهلاك كشيء سلبي وفرداني بحت. إذ يقدَّم الإنسان كفرد معزول يواجه مواضيع استهلاكه مسبقة الصنع، سواء على الأشجار أو في سلال المتاجر... مما يُخضع جميع الوظائف الرئيسة للمجتمع – من الإنتاج الصناعي إلى التربية والفن – لمهمّة مَلء تلك السلال، متجاهلاً التأثيرات اللا إنسانية لهذه العملية. ويكون أكثر «فرد» يروَّج له في هذه العلاقة هو «الإنسان- البضاعة» العبد لاستهلاكه، وللمؤسسات المعقّدة التي تمكّنه من أن يكون إنساناً-بضاعة سلبيّاً.
الاستهلاك ليس فردانياً بحتاً، ولا هو سلبي، كما قد يبدو. وكان ماركس قد شدّد على الجانب الفردي من الاستهلاك بالطريقة التالية، «في الاستهلاك تصبح المنتوجات مواضيع للمتعة، للتملك الفردي».. يجب أيضاً التركيز على أنّ الإنتاج هو كذلك شكل من الاستهلاك الاجتماعي الذي في سياقه «يُستَهلك» الإنسان كفرد مجرّد (بقدراته التي وهبتها له الطبيعة) ويعاد إنتاجه كفرد اجتماعي بكل القدرات التي تمكّنه من الانخراط في شكل إنساني من الإنتاج والاستهلاك... هذه العلاقة الديالكتيكية المتبادلة هي بالضبط ما يحفظ الاستهلاك من أن يكون سلبياً ويجعله خلّاقاً...

الفردانيّة وإفقار الإنسانية

كلّما أُدرِك، ونُفِّذَ الإنتاج على أساس إخضاعه للاستهلاك الفردي، صار إنتاجاً «أفقر». وتَحرَّك ضمن حلقة لا تفتأ تضيق من «سلع الاستهلاك الشعبي».. ومن جهة أخرى كلّما صار الإنتاج أفقر كلّما تعاظم إفقار الإنسان وإفقار الإنتاج مجدداً – وهكذا دواليك. ويبدو أن لا مخرج من هذه الحلقة المعيبة، بسبب التفاعل المعقَّد للغاية بين السبب والنتيجة كعلاقة ديالكتيكية متبادلة. فلا يستطيع المرء أن يُدخلَ تحسينات على جانب الإنتاج دون أن يعمل في الوقت نفسه على إغناء المستهلك الفرد، والذي لا يقتصر على الإغناء بالمال فقط... ولكن كيف يمكن النجاح بهذه المهمة دون تغييرات بنيويّة وليس مجرّد تغييرات تشريعية- مؤسساتية في كامل معقَّد الإنتاج؟

خصوصيّة استهلاك الفنّ

تعتبر حالة الفنّ مثالاً ساطعاً في هذا الصدد. فالعمل الفني، بسبب طابعه الخاص، يتطلب طريقة خاصة في الاستهلاك. والسبب الرئيسي لمعاناة الفنّ في المجتمع الرأسمالي هو أنّه من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، في الظروف السائدة، أن نضمن الشروط الضرورية لطريقة الاستهلاك التي تلائم الطبيعة الصحيحة للعمل الفني. وينبغي علينا أن نبقي في بالنا النقاط التالية:
أولاً - لا يمكن استهلاك العمل الفني ببساطة كموضوع نفعي، رغم أنّه كموضوع طبيعي قد يحقّق هدفاً مفيداً (مثلاً في العمارة أو صناعة الفخار... إلخ).
ثانياً - حيازة عمل فني كملكية حصرية لأحدهم لا يتلاءم أبداً مع الاستهلاك الجمالي، تملُّك عمل فني كمجرّد ملكية خاصة لشخصٍ ما هو استهلاكٌ زائف.
ثالثاً - في سياق الإبداع الفني لا يتغيّر بحد ذاته الموضوع الطبيعي الذي ينعكس في العمل الفنّي، فما يجري ليس «إنشاء» الموضوع باعتباره موضوعاً طبيعياً.
رابعاً - كمستهلكين لمواضيع المنفعة الأساسية، ومدفوعين بالحاجات الطبيعية المباشرة (الحاجة إلى الطعام، والمأوى... إلخ)، بالمقابل يكون شرطاً مسبقاً للفن أن يبقي البشر على مسافة (حريّة) معيَّنة عن حاجاتهم الطبيعية المباشرة.
يكتب ماركس أنه «يجب الاعتراف أنّ الحيوانات أيضاً تُنتِج. فهي تبني لأنفسها أعشاشاً، ومساكن، كالقندس، والنمل، والنحل إلخ... ولكن الحيوان ينتج فقط ما يحتاجه مباشرةً من أجل نفسه أو صغاره. إنّه ينتج بشكل وحيد الجانب، بينما إنتاج الإنسان شامل. الحيوان ينتج فقط تحت سلطان الحاجة الجسدية المباشرة، بينما ينتج الإنسان حتى عندما يكون حرّاً من الحاجة الجسدية، والإنسان لا ينتج بمعنى الكلمة حقّاً إلا في الحرّية من تلك الحاجة... الحيوان يشكّل الأشياء وفق مقياس وحاجة النوع الذي ينتمي إليه، أمّا الإنسان فيعرف كيف ينتج بما يتوافق مع كلّ نوع، ويعرف كيف يطبّق في كل مكان المقياس الملازم للموضوع. لذلك يشكّل الإنسان أيضاً أشياء تتوافق مع قوانين الجمال».
خامساً - لمّا كان استهلاك العمل الفني لا يمكن أن يكون بدافع من الحاجة الطبيعية المباشرة، فإنّ الاستهلاك الجمالي لن يحدث إلا بوجود حاجة من نوع آخر. وبعد الاستهلاك يبقى العمل الفني كما كان سابقاً – ولكن فقط بكيانه الفيزيائي؛ أمّا ماهيّته الجمالية فيعادُ خلقُها باستمرار في نشاط الاستهلاك. العمل الفني ليس له كيانٌ جمالي «مستقل» تماماً. وبخلاف السمّ الذي يبقى سمّاً – بفضل تأثيرات تركيبه الكيميائي القابلة لاختبار – حتى بغياب من هو مُهيَّأٌ لتناوله، فإنّ العمل الفني يصير موضوعاً طبيعياً بحتاً، أو نفعياً إنْ لم يوجد مستهلك ملائم له فنياً.

الفنّ والنفعيّة

بالنظر إلى النقطتين (1) و(2) المذكورتين أعلاه، يغدو واضحاً أنّه في الظروف التي يكون فيها موضوع ما لنا فقط – «عندما تتم مباشرةً حيازته، أو أكله، أو شربه، أو لبسه، أو السكن فيه، إلخ... وباختصار عندما يُنتَفَعُ به من قِبَلنا» – فإنّ العمل الفني لا يمكن استهلاكه كعمل فني ولكن فقط كموضوع للمنفعة. وهكذا يجري بتر العلاقة الإنسانية الملائمة التي تكمن خلف الإنتاج الفني، ويُجبَر الفنان على أن يفكر بنفسه على أنه «الأول والأخير» – أو المنتج والمستهلك – لعمله الخاص.
وتتفاقم هذه الحالة أكثر بالخواص المذكورة في النقاط (3) و(4) و(5). إنّ كون الإنتاج الفني ليس فيه «إنشاء» للمواضيع الطبيعية التي يعكسها، هو واقع قد يَخلِق الوهمَ (في ظروف معينة، عندما يُعزَل الفنان اجتماعياً) بأنّ علاقة الفنان بالعالم الخارجي تقتصر على الحجر، المعدن، الخشب، الطلاء، الصوت، الكلمة، بينما هو حرّ بالمطلق أن يفعل ما يريد في أيّ مجالٍ آخر. ومن هنا يمكن أن يتولّد كلٌّ من ازدراء المحاكاة، والانشغال المفرط بمعالجة المواد الميتة. إنّ كون «الطبيعة الثّابتة في عزلة عن الإنسان هي لا شيء بالنسبة للإنسان» تبقى حقيقة مهما ارتفع في سوق الفن سعرُ اللا شيء المُتقَن – المادة الميتة المثبّتة في بداهتها وعزلتها عن الإنسان.

أعضاء الاستهلاك الفنّي

المسالة الحاسمة في هذا السياق تتعلّق بعضو الاستهلاك الفني. إنّ الطبيعة تُعنى بتجديد إنتاج حاجاتنا للطعام والمأوى... إلخ. وعندما يفشل حصول ذلك، نستدعي الطبيب أو المعالج النفسي. ولكن لا يمكننا اللجوء إلى مساعدةٍ كهذه عندما تغيب الحاجة للاستهلاك الفني، أو – ما هو أسوأ – عندما تحلّ مكانها الحاجة لإنتاج الأعمال الفنية كمواضيع تجارية، بضائع سوقيّة. وبالطبع في غياب الحاجة للاستهلاك الفني لا يمكن أن تحدث إعادة الخلق الضرورية للعمل الفني في كيانه الجمالي، كما أشارت النقطة الخامسة أعلاه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1139