كومنترن القرن الحادي والعشرين بين الواقع الطبقي للعولمة وتثوير الحركة السياسية (2)

كومنترن القرن الحادي والعشرين بين الواقع الطبقي للعولمة وتثوير الحركة السياسية (2)

في المادة السابقة تمت الإشارة إلى مهمة سياسية ليست بجديدة في الشكل العام، ولكن مضمونها حصل عليه تحولات نوعية، انطلاقاً من التحّول في الواقع نفسه، وبالتالي حصل تحول على دورها، أو بشكل أدق ارتقاء بهذا الدور ليصير له موقع رئيسي في العملية السياسية الثورية-التقدمية. والثوري هنا مكافئ لفتح أفق مهمة حماية البشرية. ونقصد بالمهمة إطار أممي قادر على تعويض التهتك في البنى الاجتماعية في عقود العولمة والليبرالية المفرطة. وهنا استكمال لهذه العناوين.

ملامح العمل الأممي سابقاً

كان البيان الشيوعي الذي صاغه ماركس وإنجلز، وتأسيس الأممية الأولى (جمعية الشغيلة العالمية)، المثال على ضرورة العمل الأممي في عصر عالم وحدته الرأسمالية بالقوة، ووحدت بالتالي برنامج العمل بالضرورة. يجب ألا ننسى التفاصيل التقنية وقتها حول حركة العمالة العالمية وحماية الطبقة العاملة في البلد المعني في وجه العمالة الوافدة الأرخص مع الدفاع عن مصالح الفئتين الوافدة والمقيمة. وكان لهذه الأممية دور نظري وفكري طاغ لا يقل أهمية عن الدور التنظيمي. وكان كل تطور للحركة الأممية لاحقاً مدفوعاً بالتطورات العالمية والمهام المطروحة، وضمناً إنضاج وفرز الخط السياسي والفكري وتنظيم الحركة، فالدور التنظيمي حاسم. هل يمكن تصور إنضاج الحركة الثورية في دول كان التطور الإنتاجي (وبالتالي طبقتها العاملة وعلاقاتها الاجتماعية المطلوبة) فيها ضعيفاً مقارنة بغيرها لولا الدور الحاسم للكومنترن.

زمن التراجع

منذ تراجع الحركة الثورية في منتصف القرن الماضي، والتحولات الاجتماعية نحو الليبرالية واقتصاد الرفاه والفردانية وكل ذلك، حصل تحول في الحركة الأممية. مع استمرار شكل “التواصل” بين القوى المنضوية ضمن الأطر السابقة، صارت الحركة نفسها هزيلة انطلاقاً من هزالة تلك القوى في كل بلد على حدة، وحصل هذا على مراحل، مثلاً الفرز المبكر الذي حصل عالمياً بين الغرب “المرفّه” واشتراكيته الديمقراطية الطاغية على حركته السياسية وبين محور الاتحاد السوفياتي ومعه دول الأطراف الأخرى. ولكن هزالة الحركة في أطرها السابقة كان يسير جنباً إلى جنب مع عمل أممي في قنوات أخرى خارج الأطر الثورية “الصافية”، حملت شكل الدول والأطر العالمية التي حولتها الحركة الثورية السابقة نفسها ووصلت فيها القوى الثورية إلى السلطة. فالتعاون السياسي والعسكري والاقتصادي والثقافي بين الدول بشكل مباشر والأطر الدولية كالأمم المتحدة وغيرها، كلها نماذج عن ضرورات العمل الأممي الذي استمر بأشكال ومدى حَكمته طبيعة المهام، والممكن ضمن توازن القوى، أي مدى تطور الحركة ككل. ولكن كل زمن التراجع انطبع بملمح أساس ألا وهو تراجع الجانب النظري-الفكري في جانبه المتبصر والدافع للحركة (لا مدفوعاً بها فقط) للحركة الأممية على مختلف أشكالها الثورية أو التطبيعية مع القائم وتوازن قواه. ولهذا، بقي مستوى الحركة الأممية على المستوى السياسي الاقتصادي العسكري المباشر، وتراجع مستواها التثويري النظري-الفكري والتحريضي. وهذا نراه اليوم عالمياً، فما هو اليوم ذلك الإطار “المؤثر” الذي يجمع قوى ومنظمات تحمل الرؤية الجديدة والبرنامج الجديدة بما يتجاوز الجمود للقوى الثورية “التقليدية الرسمية”؟! هناك أطر قائمة ولكنها هزيلة بسبب هزالة وتموّت قواها نفسها.

التحولات الاجتماعية-الثقافية والحاجة “للـتأثير والتجميع”!

غياب الأطر المؤثرة يعكس طبيعة التحولات في المجتمع خلال عقود الليبرالية والعولمة. في المواد السابقة ذكرنا بعض عناصر كبح تطوير الحركة انطلاقاً من الوجود الرث والعالم السائل الذي انتجته العولمة الليبرالية المفرطة وملامح ضعف الانضباط العام والفردانية المفرطة والتفتيت والوهن وتجفيف العقلانية وضربها الذي أصاب العديد من المجتمعات. وبسبب شروط تجفيف العقلانية والوجود الرث، وكما أشرنا سابقاً، من الصعب أن ينتج من داخل كل مجتمع على حدة ليست فقط المكون البشري “الكافي” لتطوير حركة ثورية داخل ذلك البلد، خصوصاً في دول مأزومة يحصل فيها التجريف والتهجير بشكل يومي، بل أيضاً، إن العدو العالمي يملك من الأسلحة الدعائية-الإعلامية-الثقافية والمالية التأثيرية من جمعيات وأشكال تدخل هجين، يحتاج إلى إمكانات كبرى لا يمكن تعويضها بجهود محلية في دول أطراف تعيش الجوع. حتى تلك القوى الثورية التي نجت من عصر التراجع وقدرت على التحول مع العالم الجديد وقضاياه ليست قادرة اليوم بجهود “المحلي” وحدها أن تستمر. فلا ننسى عصر التسارع الذي نعيشه، فنحن لا نملك ترف التراكم البطيء السابق نفسه. وهذا يحتاج إذاً إلى تجميع تلك العناصر المشتتة التي ليست بالضرورة مجموعات وأحزاباً تقليدية، فهذه القوى هناك نقاش حول مدى العناصر الحية التي تحملها. اليوم يمكن التفكير أكثر بتجميع “”بالقطعة” لأفراد وربما مجموعات صغيرة تحاول التشكل أو تشكلت. فالقوى التقليدية بشكل عام (ولا نقول بالمطلق) صارت عنصر نبذ للعناصر الحية نتيجة تحنطها وجمودها وأحياناً عدائية طرحها “المعادي للقوى المحافظة” ما يجعلها اليوم تتقارب مع التيار التفتيتي بشكل موضوعي.
وبالتالي يجب البحث عن هذه العناصر في المجتمع. بهذا التجميع وحده يمكن تشكيل “النسبة الثابتة” لتطوير الحركة الأممية في جانبها النظري-الفكري التثويري الذي هو اليوم ضرورة تتجاوز الحالة الدفاعية “المحافظة” للكتل الصاعدة وجدول أعمالها المخنوق بتوازن قواها نفسه. ولكن، هذه الخطوة تحرر التيار الثوري فيها وتخرجه من صعوبات العمل ضمن جهاز الدولة نفسه. هذا لا يعني حركة تعارض السير الهادئ، بل يعني دفعها إلى أمام بقوة.
ولكن هذا الواقع العالمي الواحد أنتج تقارباً ثقافياً عالمياً نعني فيه التقارب في نمط الحياة وفي الأسئلة التي أنتجها في إطار لغة مشتركة جامعة حول ما يريده البشر اليوم عكس الأمراض العالمية التي توحدهم، أي أزمة الحضارة الفردانية-الاستهلاكية المأزومة التي لا يعرف العالم الرسمي اليوم شكلاً نظرياً ناضجاً لمواجهتها في بعدها الحضاري الشامل. الأزمة التي دفعت بشكل أساس لدخول البشرية في عصر أزمة المعنى روحياً، ودخولها جسدياً عصر الفناء.
إذاً التقارب العالمي اليوم، الذي هو أكبر مما كان عليه في عصر “الأمميات” السابقة، في تلاقٍ مع الحاجة للتجميع وإنتاج وبناء القوة الثورية القادرة على تجاوز حدود المرحلة الانتقالية ومقولاتها الدفاعية “المحافظة” حول تثبيت ما هو قائم من بنى حضارية، بل تجاوز الفردانية-الاستهلاكية بطرح نقيض يرد الإنسان إلى ذاته ويحافظ على العقلانية وينتجها. وأيضاً، حدة الأزمة نفسها فرضت تقارباً من نوع آخر، تقارباً حاصلاً في الوعي العالمي حول شروط الحل والموقف من الأزمة. فالبحث عن القوى “الثورية التقليدية” وحدها هو عملية محدودة ضيقة الأفق لا ترى الإمكانات الكبيرة في المجتمع نتيجة الأزمة الحضارية نفسها. وهنا يجب بعث الحياة في دعوة تولياتي للجبهة الحضارية (يمكن مراجعة مواد سابقة في قاسيون) بما يتلاءم مع عقود من التطور بعد تلك الدعوة التولياتية، أي البحث في طبيعة القوى التي يمكن دعوتها.
إن تشكيل الإطار الأممي اليوم يعالج أولاً قضايا تنظيمية وبشرية لتعويض التجفيف والتدمير والتهجير وشروط الحياة السائلة الحاصلة عالمياً، وثانياً يعالج قضايا فكرية-نظرية حول البحث في تجاوز الحضارة المهيمنة المأزومة نفسها وفي إنتاج البرنامج التحريضي العالمي على قاعدة هذا الفهم للحضارة النقيضة التي يجب أن تستفيد من التجارب السابقة وتتجاوزها. هذا البرنامج “العقلاني” وحده يسمح بحرمان قوى العالم القديم من سلاح تدمير أساس لديها هو القوى البشرية المأزومة المنحدرة باتجاه البربرية. إن مهمتَيّ التجميع والتنظيم وإنتاج عقل المرحلة كعقل صناعة للتاريخ ضد عقل الاستهلاك مهمتان ملحّتان وآنيتان بامتياز، قبل أن تنخفض مفاعيل زخم “مرحلة الصعود” الانتقاليلة الراهنة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1138