المضحك المبكي.. عقيدة الصدمة!
تعصر الأم ذهنها، جاهدة ومستخدمة كل ما لديها من طاقة وقدرة على التفكير «آجار البيت، مصروف الأكل، ثمن أدوية الزوج وو..»، والطفلان يجب أن يدرسا مهما كلف الأمر! ولكن حسابات الحقل والبيدر لا تكفي، تستنجد بزوجها علّه يساعدها في الإجابة على هذا السؤال المتكرر اللعين: «ماذا يجب أن نفعل؟ راتبي وراتبك من الشغلين ما بيكفوا، عصرت مخي وما طلع معي شي»، يحك الرجل المنهك من التعب رأسه: «لا أعرف..»
تتكرر هذه الدراما في بداية كل شهر، في أغلب البيوت السورية. حيث تواجه النساء والرجال سؤالاً وجودياً «ما الذي سنفعله حتى نهاية هذا الشهر؟ كيف سنمرر مصاريف القادم من الإيام في ظل ظروف أسوأ من الحرب نفسها؟»، وليس في كلامهم هذا أية مبالغة، بعد أن اختبروه بأنفسهم.
مبدأ الصدمة
في سورية اليوم، تقاتل الأمهات والآباء بضراوة وبصمت للحفاظ على الحد الأدنى اللازم لتلبية الحاجات الأساسية لأطفالهن وأسرهن والبقاء على قيد الحياة. وفي سورية اليوم أيضاً، وكما جرى مرات عديدة في السابق، يطبخ القائمون على الأمر والمسؤولون الكبار قراراتهم في الظلمة، ويطلقونها على عجل، ويستخدمون ما يتفتق في أذهانهم من حجج واهية لتبريرها ووضع الناس أمام الأمر الواقع، غير آبهين بأوضاع السوريين التي وصلت إلى الحضيض.
يقوم مبدأ المعالجة بالصدمة على التصرف بسرعة خاطفة عند وقوع أزمة في سبيل فرض تغيير سريع لا رجوع عنه، يستبق استيقاظ المجتمع المرهق من الصدمة ووقوعه مجدداً رهينة «استبداد الوضع الراهن».
ربما تكون حرب العراق مثالاً صارخاً على أسلوب المعالجة بالصدمة والذي صممه أصحاب عقيدة الصدمة والترهيب العسكرية في أمريكا، واستخدموه بكل وقاحة بحيث يعمل على «التحكم في إرادة العدو وبصيرته وإدراكه فتجعله عاجزاً بكل معنى الكلمة على الفعل وردة الفعل»، حسب ما شرحته الباحثة الأمريكية نعومي كلاين في كتابها المعنون عقيدة الصدمة.
«لا أعيش يومي لكني أنجو منه فقط»
بعد حرب دامت لأكثر من عقد من الزمن، وفاقت في ضراوتها وقسوتها كل تصور وخيال، يسير الناس في الطرقات تائهين بعيون غائرة ونظرات فارغة من أي معنى، يجرجرون أنفسهم بصعوبة، أكتاف متهدّلة، وأجساد أنهكها التعب وسوء التغذية. الناس مصدومون وأذهانهم مشتتة، ليس هناك ما يسد الرمق ويلبي حاجاتهم الأساسية ليظلوا على قيد الحياة، وليتمكنوا من الاحتفاظ بأنفسهم كبشر.
ترغب أي أم وأب بمستوى لائق من التعليم لأطفالهم، في الأزمة السورية يعيش الأهل والأمهات خصوصاً بين نارين، حرمانهم من أشياء أساسية، والحصول على تعليم بالحد الأدنى المطلوب. وعند استعصاء الإجابات حول المهم والأهم، قد يخطر في بال بعضهم «بلا تعليم بلا بطيخ»، ما هي جدوى التعليم في بلد ليس فيها أفق لأي مستقبل! ثم تبدأ القلوب بالخفقان ويشعر الضمير بالوجع، كيف أترك أبنائي دون تعليم وماذا سيفعلون في حياتهم؟ هذه اللازمة تتكرر بين شرائح واسعة من السوريين أصبح التعليم فيها عبئاً على أكتاف الأهالي.
التعليم حق من حقوق الحياة ولكن عندما تفرض المفاضلة بين الحقوق نفسها، يصبح حق الحياة هو الأهم بين بقية الحقوق، لا لأنها غير هامة ولكن لأن الأولوية للبقاء.
لم يكن النظام التعليميّ في سورية في الأصل قبل الحرب مثالياً، فقد كان يعاني من علل ومشكلات كثيرة، ولكن رغم كل علّاته، تمكنت أجيال من الحصول على مستوى مقبول من التعليم، وكان شبه مجاني في كثير من مراحله خاصة التعليم ما قبل الجامعي، وكان يحظى بشكل عام باحترام أغلب السوريين.
«بناء على مقتضيات المصلحة العامة»!
اليوم، تتخبط الحكومة ومسؤوليها بقراراتهم في أغلب المفاصل والقطاعات الحكومية، وعلى رأسها الخاصة بالقطاع التعليمي، قرارات متلاحقة ومجحفة بحق السوريين ولصالح قلة من المستفيدين في بلاد أنهكتها الحرب. فبعد صدور تعميم يقضي بمنع استقالات الكادر التعليمي بحجة النقص الكبير، وزيادة في أعداد المتقدمين بطلبات الاستقالة، مع العجز في سد الشواغر المتزايدة فيه. وبدلاً من مناقشة السبب الرئيسي والمباشر لقلة الكوادر وتزايد طلبات الاستقالة والمتمثل بالأجور المجحفة والظالمة، التي لم تعد تغطي تكاليف المواصلات الشهرية عملياً، حيث يجري إكراه المعلمين على العمل، «سخرة» كما عبّر بعضهم مستائين من هذا. طرحت وزارة التربية في قرار آخر عدداً من المدارس للاستثمار الخاص! ليتحول قطاع التعليم الحكومي من قطاع خدمي تنموي يضمن التعليم المجاني إلى حد ما، إلى قطاع استثماري يبحث عن الربح، حاله كحال بقية القطاعات التي تلوثت بحمّى الاستثمار، وتغول القطاع الخاص فيها!
ورغم معرفة المسؤولين عن حجم الخسائر التي لحقت بالبنى التحتية والمرافق الخدمية لقطاع التعليم، واكتظاظ الشعب الصفية بالطلاب وعدم كفاية الأبنية المدرسية لا من حيث العدد فقط، بل من حيث التجهيزات اللازمة للعملية التعليمية بحدودها الدنيا، فقد أصدروا هذا القرار ضاربين بعرض الحائط حق السوريين في التعليم الذي يكفله الدستور! والمضحك المبكي في هذه العملية هو الحاشية التي ترفق بالقرارات لتبريرها: «بناء على مقتضيات المصلحة العامة»!
والمعروف أيضاً أن الغالبية العظمى من العائلات السورية لا تستطيع دفع أقساط أبنائها في المدارس الخاصة. ومهما كانت هذه الأقساط منخفضة، فإن تأمينها يشكل تحدياً كبيراً لعوائل لا تكاد تملك قوت يومها.
ثمة ما لا يرى
ثمة بصيص من نور يتّقد في ذهن كل الأمهات، أنهم الأولاد، وثمة نار تحرق القلوب سببها الحاجة، حاجات الأطفال التي لا تستطيع العائلة في ظل الظروف والأوضاع الراهنة تلبيتها.
أمام حجم الخسائر التي يتعرض لها قطاع التعليم، ولاسيما ما دون الجامعي، خسائر فادحة في مرحلة تتطلّب أفضل استثمار لرأس المال البشري من أجل إنجاح عملية إعادة بناء البلاد. ستواجه البلاد مستقبلاً تركة صعبة، قوامها جيل كامل من غير المتعلمين، أو ممن حصلوا على تعليم تتضارب أهدافه وغاياته مع مفهوم التعليم الوطني. وبالتالي خسارة عقود من الجهود التي بُذلت وحققت نتائج لا بأس بها، إضافة إلى خسائر أخرى اجتماعية تهدد بنية المجتمع وتخلق مشكلات معقدة ومضاعفة وطويلة الأمد، لا يمكن علاجها بسهولة.
الحل السياسي والتعليم
لم يعد خافياً على أحد أن معالجة أي مشكلة في سورية لم تعد ممكنة في ظل الظرف القائم وأنها تحتاج إلى تغييرات جذرية. إن مهمة إعادة تأهيل قطاع التعليم ومعالجة مشكلاته، تحتاج إلى إمكانات بشرية ومالية غير قليلة وتحتاج، قبل ذلك، إلى التوصل إلى حلّ سياسي للأزمة، يفتح الباب أمام تغيير جذري في السياسات والقرارات الناجمة عنها لتصب في مصلحة الناس قبل كل شيء وتوفير المقوّمات الضرورية للحياة ومنها التعليم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1131