«رأس المال».. ماركس وبريخت على خشبةٍ واحدة في موسكو!
يعاد في موسكو هذه الأيام عرض مسرحية «رأس المال- Капитал»، التي عُرضت لأول مرة نهاية عام 2021، وتم ترشيحها عام 2023 لجائزة القناع الذهبي عن فئة «عروض الخشبة الصغيرة»، وكذلك عن فئة «أفضل ممثل». وتعتبر جائزة القناع الذهبي من أهم -إنْ لم تكن أهم- جائزة مسرحية في روسيا. كما حازت المسرحية العام الماضي على الجائزة الكبرى لمهرجان المسرح المفتوح في يكاتيرينبورغ.
- موسكو
مخرجة العمل هي ناديا قبيلات (29 عاماً) خريجة معهد غيتيس في موسكو، وهي أردنية-روسية، والعرض هو عرض ممثل واحد يؤديه ألكسندر نيكالايف (27 عاماً)، ومدة العرض ساعة وعشر دقائق.
أجواء
يجري العرض على مسرحٍ صغير، مساحة خشبته لا تتجاوز مساحة غرفةٍ بيتية كبيرة، مع بابٍ في خلفية المسرح نحو غرفة أخرى يرى الجمهور جانباً منها حيث يجلس الممثل بشكلٍ جانبي ودون أي حراك طيلة فترة دخول الجمهور للقاعة الصغيرة التي تكتظ بحوالي خمسين مشاهداً. وفوق الباب، وخلال انتظار بداية العرض، نرى إسقاطاً ضوئياً نقرأ فيه: «الوقت الذي قمت بشرائه: 00:00:00» ويبدأ هذا العداد بالعمل مع بداية العرض، لينتهي العد بنهاية العرض، ويكون الوقت الإجمالي الذي «قمت بشرائه» - كمشاهِدٍ، هو «البضاعة» التي باعك إياها المسرح ممثلة ببطاقة حضور المسرحية.
الخشبة مليئة بفوضى عارمة من التفاصيل: مانيكان نسائي، ثريا، حبال وخراطيم تدفئة مركزية، أكياس من أحجام مختلفة، دمى من أحجام مختلفة، كراتين لماركات معروفة لأحذية وغيرها من الألبسة، براميل، عبوات مياه كبيرة، كنبة، عربة تسوق، عبوات كولا... كل هذه التفاصيل-«البضائع» بما فيها الممثل نفسه، مكسوة بالغبار على عكس صورتها البراقة في الأسواق، ومكدسة بشكل فوضوي وبشع يعكس حقيقتها؛ لتمثل بمجموعها صورة عن الواقع، حيث: «تبرز ثروة المجتمعات التي يسودها الأسلوب الرأسمالي للإنتاج بوصفها تكديساً هائلاً من البضائع» وهي الجملة التي يفتتح بها ماركس كتابه «رأس المال».
هذه كلها، سيقوم الممثل بحملها في بداية العرض ووضعها في الغرفة الجانبية، في محاكاة لعملية التجريد العقلية المطلوبة لفهم الواقع، حيث يخلي ساحة الرؤية/التفكير أمام المشاهدين، ليعيد معهم تركيب الواقع «الرأسمالي» بالتدريج، انطلاقاً من الخلية الأساسية فيه: البضاعة.
في وسط الغرفة-الخشبة طاولة خشبية بسيطة وراءها كرسيان (رغم أن العرض لممثل واحد إلا أن وجود الكرسيين يبدو أيضاً تأكيداً لفكرة العرض حول التناقض بين الإنسان ومنتوجه، بين الممثل كإنسان وبين الدور الذي يؤديه- البضاعة التي يبيعها). الجدار الخلفي للغرفة، عدا عن الباب الجانبي المفتوح على الغرفة الخلفية، هو بأكمله سبورة مدرسية يسجل عليها الممثل بعض الكلمات المفتاحية في سياق الشرح الذي سيقدمه؛ فالقاعة بأكملها، أي خشبة المسرح ومعها الجمهور، هي بمثابة صفٍ دراسي حيث المشاهدون هم الطلاب والممثل هو الأستاذ.
في مقدمة الخشبة وعلى بُعد بضعة سنتيمترات من الصف الأول من المشاهدين توجد ستارة للمسرح من النايلون متوسط الشفافية، يكون مفتوحاً طوال العرض تقريباً، ويغلقه الممثل بيده في جزء من العرض ليؤدي الدور من ورائه ومن أمامه، وليمزقه بشكل كامل قبل المقطع الأخير من العرض، كتتويج لعملية «كسر الإيهام»، و«كسر الاغتراب» اللتين سنأتي عليهما لاحقاً. الستارة توحي بأنّ الواقع بأكمله هو سوق من البضائع، وهذه الستارة هي واجهته...
الفكرة العامة
العرض بأكمله مبني على فصل «البضاعة»، وهو الفصل الأول من الكتاب الأشهر لماركس «رأس المال». يقوم الممثل بشرح هذا الفصل بالتدريج طوال العرض «مرتدياً» شخصية أستاذ جامعيٍ على قدرٍ واضحٍ من الجنون ومن الاضطراب الاجتماعي بما في ذلك ما يمر من إشارات عابرة توحي بأنّ زوجته تخلت عنه، أو أنّه لم يتمكن من الزواج أصلاً.
ونقول «مرتدياً» شخصية أستاذ جامعي، لأنّه من الواضح أنّ العرض يصر على إظهار «الطبيعة المزدوجة والمتناقضة للبضاعة» في كل التفاصيل، بما في ذلك في الممثل نفسه الذي يغطي وجهه بقناعٍ شمعي شفاف طوال العرض، يتمزق بالتدريج خلال العرض، وبعد تمزيق الستارة في نهايته، يكمل الممثل تمزيق القناع منهياً بذلك وجوده كبضاعة وعائداً إلى جوهره كإنسان، كـ«قيمة نافعة» وليس كـ«قيمة تبادلية»، كـ«عمل ملموس» وليس كـ«عمل مجرد».
كسر الإيهام وكسر الاغتراب!
تجتمع في عرض «رأس المال»، وبشكلٍ فريدٍ من نوعه، فكرتان هما بالأساس مرتبطتان أشد الارتباط، ولكن في الإطار النظري البحت؛ ولكن في هذا العرض تجتمعان «بشكل ملموس».
الفكرة الأولى هي لماركس نفسه، فكرة الصنمية البضاعية وكنتيجة لها «الاغتراب»؛ اغتراب الإنسان عن منتوجه وعن المجتمع وعن نفسه. ولكسر هذا الاغتراب ليس من طريق سوى كسر النظام الرأسمالي الذي يولّده، ولكسر هذا النظام لا بد قبل كل شيء من فهمه، ولفهمه لا بد من فهم حجر العقد فيه: البضاعة.
الفكرة الثانية لبرتولد بريخت، وهي كسر الإيهام، وكسر الجدار الرابع، أي الجدار الفاصل بين المسرح وبين المشاهدين، لدفعهم نحو التفكير بأنفسهم وبواقعهم وليس فقط بوصفهم نظّارةً لحدثٍ معزولٍ عنهم ينشدون منه المتعة لا غير. كسر الإيهام عند بريخت هو شكل من أشكال كسر اغتراب الفن «كبضاعة» وخاصة «كقيمة تبادلية» عن وجهه الآخر النافع الإنساني «كقيمة استعمالية».
الحركة الدؤوبة التي يقوم بها الممثل على المسرح، هي ذهابٌ وإيابٌ مستمر بين الإيهام وكسره، بين كونه أستاذاً جامعياً مجنوناً، وبين كونه إنساناً ممثلاً. ضمن الآليات التي تم استخدامها، قيام الممثل باختراق مساحة الجمهور عدة مرات، أي العبور خارج الخشبة وبين الجمهور، وكذلك مخاطبة الجمهور بشكل مباشر من فوق الخشبة. وتم في هذا السياق استخدام الإعلانات التلفزيونية الشهيرة حيث يذكر الممثل جزءاً من نص الإعلان ويكمله الجمهور الذي يغرق في ضحك جماعي؛ الأمر الذي يخلق قدراً من المتعة وكسراً للرتابة، ولكنه في الوقت نفسه إثباتٌ عمليٌ يقدمه العرض للمشاهدين على مدى احتلال «البضاعة» لعقولهم وبجانبها «التبادلي» بالذات، لا النفعي. كما أنّه يكسر شيئاً من «الاغتراب» بين المشاهدين فيما بينهم، بأن يثبت لهم بألسنتهم أن بينهم قضية مشتركة وعميقة الجذور في وعيهم وأحاسيسهم، مع أنهم لا يعرفون شيئاً عن بعضهم البعض...
شديد المعاصرة
يعبّر العرض عن موجةٍ بات من الممكن تحسسها في الأجواء الثقافية والعلمية في موسكو؛ موجة من إعادة الاعتبار لفكرة الثورة وفكرة اليسار وفكرة العدالة الاجتماعية، واستناداً إلى الآباء الكلاسيكيين للفكرة، وذلك بعد عقودٍ من هيمنة «ما بعد الحداثة» بفوضاها وجنونها و«بضائعها»؛ إعادة الاعتبار هذه، تشمل فيما تشمل حضوراً كثيفاً متجدداً لشخصية ستالين، وقراءات جديدة لحقيقة الدور الذي قام به، في قطعٍ معرفي مهم مع الخراب الذي بدأ مع المؤتمر العشرين عام 1956...
يستمر تقديم عرض «رأس المال» على مسرح «الأربعاء 21- Среда 21» حتى نهاية شهر أيار، وهو عرض يستحق المشاهدة بكل تأكيد، وأكثر من ذلك، فهو يستحق إيجاد معادلٍ عربيٍ له...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1116