الآثار النفسية للزلزال ما المطلوب لمعالجةٍ حقيقية؟
تتسابق اليوم المنظمات غير الحكومية وصفحات التواصل الاجتماعي وبعض المؤثرين فيها على محاولة إيجاد حلول نفسية للكارثة، فنرى زخماً كبيراً من الفيديوهات التي تتضمن الحديث عن «عقدة الناجي» (واضطرابات ما بعد الصدمة) وغيرها من المواضيع المخصّصة للبحث في المشكلات النفسية المرافقة للكوارث وكيفية الحيلولة دون تفاقمها لدى من تعرّض لها بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. فهل تنجح هذه المحاولات؟ وكيف نستطيع التخلص من الآثار النفسية للزلزال خصوصاً، وللأزمات المتراكمة عموماً؟
مررنا كسوريين بكمّ لا حصر له من المآسي، كانت كل واحدة منها تدوس بثقل فيل فوق قلوبنا، تترك فراغات كبيرة، وحفراً يصعب ردمها، ثم أتى الزلزال ليشقّ المسافات بين الحُفر الموجودة ولتصبح الأزمات النفسية أشدّ وأعمق وأكثر صعوبة في التعامل معها.
رضوض متتالية
لم يكد السوريون الناجون من الزلزال ينفضون عن كاهلهم غبار الكارثة، حتى وجدوا أنفسهم في مواجهة صعبة مع كارثةٍ أخرى، ولكنها بشرية الصنع هذه المرة، فسوء التعامل مع عمليات الإغاثة عزّز الأثر النفسي السيئ لديهم، فلم يعد رضّ الزلزال مؤثراً بقدر الرضوض التالية له؛ ولعل أبسط الأمثلة على ذلك هو التعاطي الحكومي مع مسألة إيجاد سكن بديل مؤقت وسريع، والاستعاضة عن ذلك برمي عدد كبير من العائلات ضمن مهاجع كبيرة، وصالات كأنهم «قطيع» في حظيرة كبيرة، من دون أي احترام لخصوصيتهم، وما تلا ذلك من فساد في عمليات توزيع المساعدات، والتي قضت وبشكلٍ نهائي على ما تبقى من ثقة بين الناس والجهات الموكلة بإغاثتهم. كلّ ذلك مجتمعاً –بالإضافة إلى الخوف والذعر والقلق- أدّى إلى رضوض نفسية تالية للرّض الرئيسي كان يمكن لدى من يسعى حقيقةً لحلّ المشكلة تلافي مسبّبات هذه الرضوض وتسهيل عملية التعافي النفسي من آثار الزلزال.
«النّط» إلى أعلى «هرم ماسلو»
نشر عالم النفس أبراهام ماسلو في العام 1943 ورقة بحثية بعنوان «نظرية الدافع البشري» تضمّنت ما يعرف اليوم باسم «هرم ماسلو للحاجات البشرية» والذي يصنّف فيه حاجات البشر اعتباراً من الأكثر أساسية لبقاء النوع واستمراره (الماء، الغذاء، التنفس... إلخ) صعوداً نحو الاحتياجات الأرقى (الأمان الأسري والصحي والوظيفي) وصولاً إلى الاحتياجات الاجتماعية (الصداقة والحب والأسرة) ثمّ الحاجات النفسية كالحاجة للتقدير، ثمّ وبتلبية كلّ هذه الحاجات يستطيع الإنسان الوصول إلى تقدير الذات وتحقيق الإبداع.
ولكنّ ما يجري حقيقةً وما يقوم به الداعون بكثافة لإيلاء الموضوع النفسي أهميةً كبرى – وبغضّ النظر عن صدق النوايا لدى البعض- هو محاولة للنّط إلى رأس الهرم مباشرةً، أو على الأقل البناء من منتصفه دون التأسيس له، ولهذا غالباً – ويمكننا أن نقول دائماً- ما نجد الحلول النفسية لوحدها عاجزة وقاصرة عن حلّ المشكلات النفسية الاجتماعية، وإذا فرضنا جدلاً بأن أحدهم استجاب للدعم النفسي والعلاج السلوكي المقدّم، إلّا أن تواجده ضمن ظرف منتج دائماً لمسبّبات القلق والتوتر لن يساعد في تحصينه بشكل مستمر من الأزمات النفسية المتوالدة والناتجة عن هذا الظرف، قد يؤدي العلاج النفسي إلى تخفيف حدّة الأزمة ولكن تجفيف الوسط الذي خلق الأزمة يستدعي تلبية الحاجات الأساسية للنفس البشرية بدايةً، لأن أيّ شيء يبنى من دون الأساس سيتعرّض لخطر السقوط مجدّداً.
الحلول الموجودة قبل الزلزال
ظهر على مدى اثنتي عشرة سنة من الأزمة نوعان أساسيان من «الحلول» للمشكلات النفسية التي تفاقمت أكثر بعد حدوث الزلزال، النوع الأول هو اللجوء إلى الطبّ النفسي والعلاج السلوكي، والذي يظهر العديد من المشكلات أيضاً، فإذا ما استثنينا مشكلة «علم النفس» كعلم بحدّ ذاته وتعدّد المدارس فيه –والذي يعبّر عن اختلافات فلسفية بالنظرة إلى العالم والإنسان- فإنّ مجموعةً أخرى من المشكلات الخاصّة تبرز في الحالة السورية، لعلّ أوضحها هو تراجع القطّاع الطّبي عموماً ونقص الكوادر الطبية الأساسية فيه ومن ضمنهم الأطباء النفسيون، إضافةً إلى ارتفاع تكاليف العلاج. وهو ما جعل بعض الجمعيات والمنظمّات غير الحكومية تتبنّى ظاهرة «الدعم النفسي» أيضاً عن طريق تقديم «برامج توعية» وإقامة «ندوات خاصّة» وهو ما له مشكلاته المتعلقة بالتمويل من جهة وبضعف ومحدودية تأثيره من جهة ثانية، هذا إضافة إلى مشكلة ضعف ثقة المتضررين نفسياً بالجهات التي يمكن أن تقدم هذه الخدمات أو التردد بطلب المساعدة بسبب الخجل التقليدي من وصمة الاضطراب النفسي.
ونتيجة هذا الفراغ الكبير في محاولة سدّ الثغرات في مجال العلاج النفسي ظهر على السطح النوع الثاني من «الحلول» وهو ما يسمّى بـ«التنمية البشرية» والذي يعتمد بشكل أساسي على فكرة «الفردانية» والقدرة على تحقيق ذات الفرد بغضّ النظر عن الظرف المحيط، وهي فكرة ليبرالية بحتة في الأصل تمّ استيرادها جاهزة من الدول الأوروبية والتي من الممكن أنّها في مرحلة ما كانت تؤدي إلى نتائج إيجابية لديهم، وذلك بسبب وجود حدّ أدنى من الدعم الاجتماعي الذي تقدّمه الدولة، في حين أنّ هذه الفكرة هنا تبدو «مبهبطة» وغير قابلة لإعطاء النتائج المرجوة منها، إلّا أنها نجحت بأن تكون قشّةً لدى بعض الغرقى في بحر اليأس والإحباط.
حلول ما بعد الزلزال
لم تتغير العقلية كثيراً بشأن إيجاد حلول للتبعات النفسية بعد الزلزال، حيثُ سارعت بعض المنصّات على وسائل التواصل الاجتماعي لاستغلال «ترند» الزلزال بالحديث الموسّع عن الكارثة النفسية، وهو ما لجأت إليه أيضاً بعض المنظمات غير الحكومية التي طالبت وسعت إلى وجود أطباء نفسيين اختصاصيين ضمن حملات الإغاثة أو بعثات المساعدات. كذلك بادر بعض الأطباء النفسيين من خارج البلاد ضمن حملات فردية لنشر أرقامهم وحساباتهم ليكون من المتاح للأفراد المتضررين التواصل معهم وبالتالي محاولة التخفيف من معاناتهم. ولا شكّ أنّه لا يجوز بحال من الأحوال التقليل من قيمة هذه الجهود المبذولة، وخاصّة الصادقة منها والبعيدة كلّ البعد عن دافع «الربح»، ولكن من المشروع أيضاً السؤال عن الجدوى الحقيقية منها، وعن قدرتها على تحقيق التشافي المطلوب، ولا سيّما في الحالة الخاصّة السورية.
التغيير هو الحل
قد يقول البعض اليوم في ظلّ الجرح الساخن الذي تعيشه البلاد بأنّه من الترف القول بأنّ التغيير الحقيقي والجذري للواقع السوري هو السبيل الوحيد للخلاص من الأزمات النفسية المتراكمة، وبأنّه لا بدّ من إيجاد حلول أسرع، وقد يحمل هذا القول شيئاً من الصحة نظرياً، إلّا أن الوقائع العنيدة أثبتت وتثبت كلّ يوم بأن كوارثنا النفسية لم تعد خاصّة بكلّ فرد منّا على حدة، بل تحوّلت إلى «حالة عامة» حيث أصبحت مشكلاتنا النفسية متشابهة إلى حدّ التطابق، وهو ما يشي بأنّ الخلاص منها لا يمكنه بأية حال من الأحوال أن يكون فردياً، وأنّه لا بدّ من تغيير حقيقي يطال بنية الدولة والمجتمع بشكل كامل، من أجل الوصول إلى الاستقرار النفسي المنشود.
ومهما حاول اليأس أو التيئيس أن يضعف إرادتنا، لكنّ الواقع الذي يبدو قذراً وعصيّاً على التغيير هو ما سينتج أدوات تغييره، ولعلّ الأداة الأهم اليوم هي المعرفة الصحيحة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1111