عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن(5)

عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن(5)

من الضروري أن نختتم السلسلة التي تحمل ذات عنوان هذه المقالة والتي ضمت 4 مقالات سابقة ببعض النقاط الرئيسية التي عالجتها المقالات السابقة. هذه النقاط إلى جانب أنها تضع المقالات السابقة في السياق التاريخي وتحدد مواقعها في الصراع الراهن، فهي أيضاً تحاول أن تتوسع في الخلاصات السياسية-العملية لتلك المقالات التي ربما كانت غارقة في الطابع الذي يميل قليلاً إلى المعالجة النظرية. هذا التوسع ينقلنا في المواد القادمة إلى التركيز بشكل منفصل على مختلف المستويات والقضايا التي تضمنها الإطار العام للمقالات السابقة.

مجدداً في إطار المحاولة العام

إن سلسلة المقالات السابقة تُحاول أن تكثِّف في إطار عام الخط الذي حاولنا أن نكرر نقاشه على مدى السنوات السابقة على صفحات قاسيون، والذي يحاول أن يُظهر أن التوسع التاريخي للرأسمالية استغل هوامشه عمقاً واتساعاً وذلك من خلال التركيز على أن الرأسمالية ومن خلال انتقالها إلى شكل هجين للاستغلال والقمع، أي القمع المادي المباشر بتداخل مع القمع «الناعم» من خلال التحكم بالوعي واستيعاب الحاجات الفردية في قالب «مقبول» للنظام، قامت باستغلال آخر هامش للتوسع على مستوى الفرد- الإنسان. وفي مفردات الصراع الطبقي، فإن الرأسمالية في قيامها بذلك أمنت استيعاباً مؤقتاً (مؤقت فقط) للجماهير التي اقتحمت مسرح التاريخ في بدايات القرن الماضي وحتى منتصفه بشكل أساس وحاولت تعطيل هذه الطاقة الثورية على هذا المسرح بالذات، مغرقة القوى الإجتماعية بأوهام التحقق الذاتي التي رفعتها الليبرالية. بالطبع لم يحصل هذا التحول نحو الوهم الليبرالي بشكل متساوٍ في المركز والأطراف، ويختلف أيضاً ضمن المركز كما ضمن الأطراف أيضاً حسب تطور الصراع السياسي في كل دولة من الدول والمدى الذي قدرت القوى الثورية أن تصله. ولكن وبشكل عام يمكن القول إن «الفيروس الليبرالي» كما يسميه سمير أمين طال الغالبية العظمى من المجتمع البشري. لا بل يمكن القول إن ضعف حصوله في بقعة من العالم شكّل دافعاً لعملية التهجير العظمى التي حصلت من تلك البقع إلى أخرى سعياً نحو هذا «الحلم الليبرالي». فالدول التي كانت أقل قدرة على تحقيق خصائص «الاستيعاب» التي تم تثبيتها في المركز الغربي (حيث تم السماح بكل أشكال المتع الفردية بداية من الاستهلاك المفرط، إلى الرفاه المادي، والجنس...). وتضخم هذا الانتقال واكتسب زخماً جديداً للنموذج الليبرالي بعد انهيار السوفييتي وانفجرت معه وبشكل مفرط وسائل هذا النموذج من الميديا والدعاية والأكاديميا التي عبرّت عن القمع الناعم بلبوس شعار السعادة الاستهلاكي المتمحور حول الفرد.

في تطور الصراع وتعقيده ضد الاقتصادوية

هذا التوسع في شكل الإستغلال، والذي ترافق بشكل أساس مع تعقيد عملية العمل وارتفاع وزن العمل الذهني نسبة لوزن العمل الجسدي، سمح بالاقتراب أكثر فأكثر من المضمون الذي يحمله المجتمع الرأسمالي وتحديداً لناحية مأساة الإنسان المغترب التي لم تكن واضحة في المراحل الأولى من تطور المجتمع الرأسمالي. وبالتالي يمكن القول اختصاراً إن العقود الماضية أوصلت المجتمع الرأسمالي إلى نهايته المنطقية، وهنا من الجانب الوجودي في علاقة الإنسان بنفسه وبالعالم من حوله مما يسمح بالقول إن الرأسمالية وحتى منتصف القرن العشرين سمحت بإبراز الجانب الاقتصادي-السياسي للماركسية، بينما ومنذ منتصف القرن العشرين وتحديداً في العقود الماضية سمحت بظهور الجانب الفلسفي من الماركسية وتحديداً حول أزمة المجتمع الرأسمالي كنمط حياة، وتحديداً في كون الرأسمالية تفرغ الوجود الإنساني من معناه وتجعل الإنسان «دودة» استهلاكية على حد تعبير ألبرتو مورافيا. وإذا استخدمنا كلمات مكسيم غوركي، تكثيفاً يمكن القول إن المرحلة الأولى من الصراع الثوري حاولت بشكل أكبر الإجابة عن سؤال «كيف نعيش؟»، بينما المرحلة الحالية من العملية الثورية وإضافة إلى الإجابة عن سؤال كيف نعيش، تتطلب الإجابة وبشكل متزامن عن سؤال «لماذا نعيش؟» كون تطور الرأسمالية نفسه فرض قضية معنى الحياة على جدول الأعمال، وهذا باعتراف عتاة منظري الرأسمالية اليوم في كون عصرنا اليوم هو «عصر المعنى».

الأزمة تفترض الإجابة:إفلاس العقل المهيمن

ليس التصدي للإجابة عن معادلة الـ«كيف ولماذا نعيش» ترفاً نظرياً بل هو في صلب الصراع لحماية البشرية الذي هو نفسه الانتقال بها نحو نموذج إنساني للحياة. فالصراع الطبقي وإن كان في نهاية التحليل يحتكم إلى قوانين الاقتصاد السياسي، ولكننا لا يمكن أن ننسى للحظة واحدة أنه يتحمور حول تحقيق حاجات الإنسان المادية والروحية التي هي وظيفة الاشتراكية على حد تعبير ستالين. وغير ذلك هو طمس الحياة بملامح التحليل الاقتصادي السياسي، أي طمس حياة الإنسان وتطوره كفرد له أبعاده العاطفية والجمالية. فالأخيرة ليست إلا أداة للوصول إلى الأولى. وهذا يدفعنا إلى القول إن الاقتصادوية اليوم حاضرة في تغييب النقاش حول نمط الحياة الذي يشكل مادة التشويه والحرب الثقافية والممارسية التي تمارسها الإمبريالية. فالقول بأن القمع الهجين افترض تعميم «حلم السعادة الليبرالي» هو اليوم أمام أزمة عميقة بسبب الأزمة التي طالت هذا الحلم بعد استفحال تناقضاته (على وقع الأزمة الاقتصادية التي قلصت هوامش الرفاه الوهمي في الغرب بشكل خاص وجففت واحات الهروب من الأطراف نحو المركز «الحلم»)، أي بعد انكشاف الفراغ الداخلي لنمط الحياة الاستهلاكي الذي أوصل الإنسان على مستوى العالم للسؤال حول معنى الحياة، نقول، إن أزمة القمع الهجين الذي ميّز الرأسمالية ما بعد طفرة الرفاه و«الرشوة التاريخية» التي قامت بها القوى المهيمنة، أوقع هذه القوى في أزمة هيمنتها. ولهذا فهي اليوم، وبسبب غياب هوامش أخرى يمكن لها أن تتوسع إليها اتساعاً (ما تشهده من مواجهة من قبل الدول التي تشكلت بشكل أساس على قاعدة الثورات الاشتراكية، أي الصين وروسيا بالتحديد) وعمقاً (في تضمنها المستوى المادي والعقلي للإنسان، وأيضاً في استنفادها شبه الكامل لحدود الطبيعة التي تسمح بالحياة على الكوكب)، بسبب غياب هوامش التوسع تلك فإن المجتمع الرأسمالي ككل أمام أزمة وجودية. وهذا لا يعني فقط دول المركز، بل يعني كامل المجتمع البشري، الذي يتبع إلى هذا الحد أو ذاك نمط الحياة الاستهلاكي-البضاعي، ومعه يتبع بالضرورة سردية الليبرالية الفردية.
إن ازمة هيمنة عقل هذا النموذج تفرض بالضرورة تعطّلاً لدور البنية الفوقية ومعها كامل منظومة القيم والعادات والأخلاق والحقوق والعلوم والسياسة التي تسنتد إلى الديمقراطية الشكلية للبورجوازية والليبرالية ضمناً. هذا التعطل نراه في كامل المشهد الثقافي والفكري والأكاديمي والعلمي والفني والسياسي للعالم الذي لا يزال ينتمي إلى هذا الحد أو ذاك لقاعدة الرأسمالية في مرحلتها الإمبريالية. ومن هنا نرى أن من يملك هوامش هذا الإفلات من أرضية الإمبريالية وفي مواجهة معها يحمل ملامح كسر هذا التعطل الذي يأخذ بشكل أساس مظهر الإبداع على حساب العقل «الرث» الذي يجري تعميمه من قبل قوى العالم القديم، وفي أقصى أشكاله تعطيل العقل والوقوع في إطار «الجنون» والسواد الوجودي وعياً وممارسة، أي تعطل النشاط البشري نفسه. ولكن، هذا التفلت وإن كان يحصل في مستويات محددة وضيقة (اختراقات علمية تقنية، وتطوير في الإبداع السياسي لسلوك هذه الدولة أو تلك على حساب الانحطاط العلمي والسياسي للدول الإمبريالية بشكل خاص) لن يتكمل دون الانتقال إلى نموذج اجتماعي نقيض (على قاعدة اقتصادية إنتاجية نقيضة حكماً) للمجتمع في إطاره الاستهلاكي حيث يحصل تحويل لعلاقة الفرد بعالمه، وحده القادر على ضخ معنى في عالم الإنسان، وبالتالي تماسك للإنسان ولنشاطه ولعقله بشكل خاص، وتماسك للمجتمع بشكل عام. ضخ المعنى عبر تحويل دور الفرد من متلق سلبي إلى منتج فاعل في تقرير مصيره ومصير الآخرين، أي عبر اكتمال معادلة ماركس بشكل أساس حول اكتمال وجود الإنسان الجمالي من خلال تحقيق الذات. ومجدداً، إن عصر الليبرالية شكل قاعدة تاريخية لكي تصير معادلة تحقيق الذات الهيغلية ممكنة. بينما اليوم مطلوب تحويل هذا الممكن إلى واقع، أي في كسر «الشكل» الاغترابي الفردي، وتحرير «الجوهر» الجماعي لتحقيق الذات. وهكذا نحن اليوم أمام الانتقال إلى ماركس على كل المستويات. هذا الانتقال ورفع لوائه مشروع ضروري في عملية الصراع لمنع قوى العالم القديم من توظيف هذا التعطل لصالحها عبر جر الملايين إما نحو البربرية، أو الانتحار المباشر.
هذه هي الخلاصات الأساسية من السلسلة الأخيرة بالتحديد والتي سنحاول في المواد اللاحقة البحث بشكل أكثر تفصيلاً في كل مستوى من مستويات أزمة العقل المهيمن حقوقياً وقيمياً وعلمياً وفنياً وسياسياً، وإن كنّا مررنا على بعض من جوانبها سابقاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1105