مسلسل سوري خارج الزمن
يا أخي أزمة المسلسلات السورية تكمن بالنص. ما بدها نلف وندور.
لوين بدنا نلف وندور؟ ما القصة واضحة مثل عين الشمس. نصوص متوفرة بكثرة، لكن هل تريد شركات الإنتاج تبنيها؟
طبعاً لا، أنت نطقتها. نصوص بما هب ودب، معنى ذلك النص النوعي شبه مفقود، والسائد نصوص سطحية، لا تتوفر فيها شخصيات حقيقية من لحم ودم.
حديثك ركيك. والمنطق بقول: بالضرورة يوماً ما سيتمخض عن الكم الكبير من النصوص، كم نوعي يعبر عن واقعنا الحالي.
طيب يا أخي، ما فيني غير قول: عيش يا كديش لينبت الحشيش.
خليك مثل ما أنت فكرك ضيق...
آه يا فيلسوف زمانك...
الجمهور الأعزاء، نكتفي هنا عند هذا البث، وكما جرت العادة سألعب دور الغيمة الماطرة، لأطفئ النار الملتهبة بعد النقاش الحامي الذي حصل بين أخي الكبير والصغير. أنا حسين. كنت معكم من غرفة المعيشة. من فضلكم لا تذهبوا بعيداً. سأعود إليكم بعد لحظات، لنكمل النقاش بطريقة مختلفة.
***
بعد التحية الطيبة، اسمحوا لي في متابعة النقاش عبر جريدة قاسيون الناطقة باسم حزب الإرادة الشعبية. من جديد معكم حسين، ويسرني الاستمرار بالنقاش حول أزمة النص في المسلسلات السورية، وأقترح إضافة عنصر آخر إلى هذه المسألة متمثلاً بالسياق. وقبل تفنيد القضية، لا مفر من الدخول إلى جوانب نظرية قد تكون جافة قليلاً لدى البعض.
«النص (TEXT) هذه الكلمة المأخوذة من الكلمة اللاتينية «نسيج» «رباط» (ومن هنا TEXTURE «بنية، تركيب، نسيج») هو كلية الأفكار والكلمات المتشابكة بجملة من روابط قسم منها مخفي وغير مرئي. أما السياق (CONTEXT) فهو الكلية الأوسع التي ينسج فيها النص، وهو يُنسَج بروابط مخفية بالأساس» (1).
يمكن وفق ما ذكر أعلاه الدخول إلى المسألة بطريقة مختلفة. نفسر فيها علاقة أزمة النص في المسلسلات السورية مع الكلية الأوسع (السياق).
السائد حالياً هو أن العمل الدرامي يبدأ من النص، ومن المعلوم أن النص له مكانة جوهرية لدى أية شركة إنتاج، كونه من جهة يحدد لهم محتوى العمل الدرامي، ومن جهة أخرى يرسم لهم ملامح مسار خط إنتاج المسلسل قبل ضخهم لأية مبالغ مالية. إثر هذه الحالة السائدة نرى قسماً كبيراً من الكتاب يكتبون نصوصاً تتوافق مع رغبة مالكي شركات الإنتاج. لكن السؤال هنا ما هي النصوص التي يرغب بها زعماء الإنتاج؟
لكي أقدم لكم إجابة موضوعية حول هذا السؤال، علينا أن نذهب معاً في تجربة ملموسة، قد تفسر لنا أكثر علاقة النص بالسياق.
مخرج يستند بعمله إلى منهج ستانسلافسكي، يطلب من ممثل في بداية مساره الفني، الصعود إلى خشبة المسرح، لتطبيق مهمة بسيطة جداً عبر المشي من عمق الخشبة إلى مقدمتها. وخلال ومضة خاطفة قام الممثل بأداء المهمة. فقال له المخرج: الفعل الذي قمت به فارغاً من أي معنى. لقد كنت تتحرك مثل الآلة على الخشبة من دون أية مشاعر. ثم طلب منه إعادة أداء المهمة. وأثناء وصول الممثل إلى منتصف الخشبة، طلب المخرج منه التوقف، والإجابة على ثلاثة أسئلة:
ما الذي جاء بك إلى هنا؟ لماذا أنت هنا؟ إلى أين أنت ذاهب؟
بدأ الممثل يسأل عن السياق البسيط الذي يتواجد بداخله. واتضحت الرؤية بالتَّدريج، وكشفت له شيئاً من معنى حركته على خشبة المسرح.
صفوة القول من هذه التجربة البسيطة: السؤال عن السياق الزمني، بشكله البسيط أو المعقد. يمكن تطبيقه عند العمل على أي نص درامي. فهذا السؤال بأركانه الثلاثة المترابطة: ماضٍ، حاضر، ومستقبل. قد يفتح أفق التفكير في فهم العلاقة الداخلية للسياق، بالتالي يمكن نسج نص نموذجي في داخله. إذا تحقق ذلك يمكن القول إن هذا نص واقعي بامتياز، كونه حقق الشرط الأساسي في الدراما الواقعية. فإن «كل كلمة (كل إشارة) من النص تُخرِجنا خارج حدوده. وأي فهم له هو ربط للنص المعني بالنصوص الأخرى» (2). «مفهوم أن النص الذي يصير تحفة هو ذلك النص الذي يطرح مسائل الوجود الأساسية، ولذلك يمكنه (أن يندرج) في شتى سياقات الزمان والمكان المحددين» (3).
بناءً على كل ذلك يمكن الاستنتاج أن أحد أهم جوانب أزمة المسلسلات السورية تكمن بعدم ارتباط النص بالسياق. وهذا الأمر الخطير يتوافق مع رغبة زعماء الإنتاج، بالحصول على نص مفكك عن السياق الزمني، ينسج بمعظمه داخل جزء زمني واحد من الكلية الأوسع (السياق). لذلك نشاهد بشكل منفصل مسلسلاً محوره التاريخ، مسلسل محوره الحياة اليومية، ومسلسل محوره المستقبل المتخيل. وهذا الأخير قليل نسبياً في منطقتنا. لكنهم لم يكتفوا عند ذلك، وأصبح ملاحظاً أنه في آخر عشر سنوات تقريباً، دخل المسلسل السوري أزمة أعمق بكثير عبر نصه وما يليه من عمليات تنفيذه، حيث يقدم للمشاهد عبر منصات عدة مسلسلاً خارج السياق الزمني بشكل كامل. لا يعبر عن ماضينا، ولا يرتقي إلى حاضرنا، ولا يعنيه مستقبلنا. ويمكن أن يندرج في إطار فن التسلية على طريقة المسلسلات الأمريكية.
(3) سيرغي قره - موزا (1939 -) فيلسوف وعالم اجتماع وكيمائي ومؤرخ من الاتحاد السوفيتي وروسيا.
ميخائيل باختين (1895-1975) أديب سوفييتي ومنظر فن.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1104