عن وحدة وتفاعل وتناسب البنية الفوقية والتحتية وإفلاس العقل المهيمن (4)
في المواد الثلاثة السابقة حاولنا أن نجمل في إطار عام الكثير من المواقف والظواهر التي يتم تناولها مؤخراً والتي تتطّور في سياق الأزمة العامة للبنية الرأسمالية. والحلقة الرئيسية هي تجر خلفها سلسلة التحليل هي التوتر ما بين البنية الفوقية والتحتية وعجز الأولى عن استيعاب التناقض الموضوعي في الثانية، وفي هذه المادة التي سنحاول أن تكون الأخيرة سنحاول أن نتناول مرة جديدة عن الخلاصات التي هي أيضاً جرى نقاشها مسبقاً، والتي تشكل طاقة وزخم ومضمون الهجوم في وجه نمط الحياة الذي ينهار.
الفاشية المعممة بتلاقح مع البربرية
إن عجز البنية الفوقية اليوم عن لعب دورها التاريخي في أن تكون البناء الفكري والأخلاقي والقانوني والقيمي والثقافي-السياسي للبنية التحتية يؤسّس إلى كسر قانون التناسب بين البنيتين، وهو ما يشكل القاعدة المادية لظهور جوهر النظام في مرحلته الحالية كنظام إبادة للحياة، في ظل العجز عن تغليف هذا الجوهر بشكل مموه عبر مؤسسات وعقل البنية الفوقية. إذاً، لنكون دقيقين، نحن لسنا أمام تعطل التناسب بين البنيتين، بل إن التناقضات وطبيعة الأزمة واحتدام التناقض بين علاقات الإنتاج والقوى المنتجة يفرض أن تكون البنية الفوقية وأشكالها تعكس الجوهر الرأسمالي دون تمويه وتعقيد. وكون هذا الجوهر في طبيعته معادياً للحياة ويتمحور حول مصالح القلة القليلة على قاعدة شفط الثروة، فإن البنية الفوقية يجب أن تنطق بهذا الجوهر بلغة صريحة. ومن هنا انهيار المؤسسة السياسية التقليدية للبورجوازية ودولتها، وعقلها الليبرالي، وكامل النموذج القيمي للـ»الديمقراطية» الشكلية. وهذا ما فتح كما أشرنا سابقاً إلى تدمير النشاط الذهني من موقع القاعدة المعرفية ليس للرأسمالية فحسب، بل لمجمل الفكر المنقسم على ذاته بشكل عام كحالة عامة للمجتمع الطبقي. ومن هنا أزمة العلم الرسمي وفنه وكل عقل ينتمي للسائد بما فيه العقل اليومي. وهنا نصل إلى أن الصراع لا يحمل طابعاً ثقافياً وحيد الجانب على شكل «مؤامرة»، بل هو التفكك الداخلي للبنية الرأسمالية. وهنا يمكن أن نختم هذه السلسلة بخلاصات سياسية يجب الدفع بها كما قلنا سابقاً إلى الواجهة العامة للصراع ما بين عالمين لم يعد من المقبول تأخيره من قبل القوى الحيّة وتحديداً المستوى الدولي منها وتشكيل إطاره ومؤسساته الأممية اللازمة، وأقل من ذلك لن يصمد أمام المأسسة الإعلامية والثقافية والدعائية والممارسية للفاشية-البربرية على قاعدة انهيار العقل المهيمن كما أسلفنا سابقاً.
انهيار النشاط وضرورة التأسيس لنشاط بديل
مجدداً، إن المشهد الفكري-الثقافي لا يقوم فقط على مخطط يجري تطبيقه و»فرضه»، بل هو تعبير عن أزمة عجز تجاوز الانقسام الاجتماعي بين مشروعين للمجتمع والبشرية. فكما أن الانقسام المعرفي في العلم وموقعه تجاه الواقع هما أساس أزمة العلم وملامح هذه الأزمة، فإن الأزمة في المجتمع وملامحها اليوم هي التوتر والتناقض بين تقدم وتراجع كلا المشروعين التاريخيين، وبالتالي فهي أزمة موضوعية هي أزمة حركة داخلية للبنية، وليس قراراً «مؤامراتياً» من هذه المؤسسة العالمية أو تلك، على الرغم من وجود هكذا قرار. ولهذا، وللخلاصة نقول، إنها ليست حرباً ثقافية بحتة، كما تحاول بعض التنظيمات والطروحات القول به. إنها صراع طبقي بشكل أساس. فالنشاط العملي الذي يقوم عليه النشاط العقلي هو بذاته المأزوم. فكما قلنا في المواد السابقة، إن عدم التلاؤم بين فضاء المعاني الموضوعية التي هي جوهر التجربة التاريخية-الواقعية إلى فضاء الفهم العقلاني لهذه المعاني، سينتج كارثة عقلية-نفسية هي التي نحن في صددها اليوم، وهذا هو تكثيف التوتر بين البنيتين الفوقية والتحتية. وإذا كانت أزمة الانقسام، وعي-مادة في عصر ما بعد-الحداثة والنيوليبرالية في العلم هي التي تحرم العلم من موضوعه الذي هو العلاقات الحقيقية للمجتمع والطبيعة وبالتالي تحرمه من إمكانيته على التجريد والتعميم وتعطل قدرته الإبداعية، فهي في المجتمع أخطر وأبعد مدى، فهي تحرم العقل من مادته، وتعطل نشاطه. فحرمان العقل من موضوعه، أي ما سماه ليونتييف بالنشاط الأساسي المهيمن الذي هو تحقيق الذات حسب المرحلة التاريخية التي تعطي هذا التحقيق شكله التاريخي، وحرمانه أيضاً من المستقبل الممكن وعبر إبعاده عن التناقضات الواقعية (تناقضاته الذاتية وتلك الاجتماعية) التي هي مادة حركته وتطوره، عبر تعميم الدستوبيا (تسمى لدى بعض الأدبيات بدستوبيا الإنسان الأبيض) التي عمت كل عقل مهيمن من الميديا والإعلام نحو العلوم والثقافة، كل هذا يجعل النشاط العقلي مستحيلاً ويدفعه نحو التعطل والانهيار عبر حرمانه من دافعيته وبالتالي من إمكانيته على القيام بمهامه المرتبطة بالأهداف، في ظل غياب موضوع هذا الفكر الذي هو تحقيق عملاني للحاجات والرغبات، فيستحيل العقل «زومبياً»، والذي هو مكافئ لتيار «العلموية» Scientism الذي يقدس كل رأي «علمي» لمجرد سما نفسه علماً، وهو انعكاس لظاهرة التشييء و»الموضوعاتية» كما سماهما هوركهامير، أي إلغاء الموقف الذاتي. ونحن بغنى عن القول إن أزمة العلم وأزمة العقل العام تتخادمان كونهما تقومان على ذات القاعدة المرتبطة بالتجريد والتعميم فيقع العقل في نقطة خارج الزمان. هذا يحصل أمام أعيننا في كل بقعة من العالم، وهذا ليس بجديد، بل هو الترجمة الحالية التي تظهر بها ظاهرة الاغتراب إياها، والترجمة لأحد الأشكال التي يحصل بها تدمير القوى المنتجة، وهنا العقل والإنسان، فليس صدفة كلام هوركهايمر أن الأزمة في العلم استهلكت وحرقت وقضت على جهود وطاقات علمية ضخمة على مدى عقود، بدون إنتاجية. أما على الصعيد الاجتماعي فهذا الاستهلاك للطاقات هو قضاء على البشر أنفسهم، كمرحلة ما بعد «تضييع الوقت والترفيه».
وما سبق أكثر من مفهوم، كون التدمير الفعلي عبر الحروب هو أقل وزناً اليوم (ونقول نسبيا بالتأكيد)، مقارنة بالحربين العالميتين الأولى والثانية حيث حصر تدمير مباشر للقوى المنتجة وإهلاكها. وهذا التدمير الذي له شكل إهلاك النشاط العقلي هو أوسع مدىً وأعقد، كون الدفاع عنه لا يمكن أن يتلخص بالتوازن العسكري، بل يتطلب عملية هجومية تاريخية لإحياء العقل عبر فتح طريق المستقبل له، ولو كان ذلك بتأمين السردية عن العالم التي تلائم الكامن من المعاني الموضوعية التي تحرمها اليوم مستويات البنية الفوقية من التحقق. أي سردية بناء عالم بديل يمكن أن يجيب عن أزمة الانقسام التاريخي بين العقل والمادة، والذات والموضوع التي وصلت إلى ذروتها التاريخية. وليس صدفة القول، إنه إذا كانت معادلة هيغل قد تم فتح الطريق لها في العقود الماضية عبر توسيع هوامش تحقيق الذات ولكن دون تأمين القاعدة الموضوعية لهذا التحقيق (كيف يتم تحصيل الاعتراف انطلاقاً من الضرورة الواقعية لصاحب السعي نحو الاعتراف وكونه مفيداً لنفسه والآخرين)، فإن الأزمة التي طالت هذه المعادلة الهيغلية تتطلب النقلة نحو ماركس، أي الحل الموضوعي لأزمة «اغتراب هيغل». أليس هذا ما حصل عبر تاريخ الفلسفة (كما حصل في تاريخ العلم أيضاً)، أي في كون ماركس هو التطور الموضوعي لهيغل، هو ما يحصل الآن على شكل اكتمال هذه الحلقة بين الفلسفي والواقعي، والتجلي العملي للفكرة الفلسفية. وهذا يجب أن يسلك نحو العقل التقدمي الحي من أجل تحويله إلى برنامج عمل، وليس صدفة أن تتضمن كلمة الرئيس الروسي الأخيرة كلاماً حول «بناء عالم يسمح بتحقيق الذات بمعزل عن ظروف الفرد ونشأته»، فهذه السردية المتقدمة ما زالت في بدايتها ولكنها ضرورة ملحة لحماية الحياة على الأرض، وكل الضجيج والصراخ الحالي هو توتر ضمني كتعبير عن الكامن الذي يحاول أن يجد طريقه في هذه السردية نحو حل أزمة «عصر المعنى» كما سمّاها حتى عتاة منّظري العقل المهيمن. والدّفع بهذه المهمّة له أولويّة قصوى.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1104